* مقاربة لتجربة برامج الأطفال في لبنان
يعتبر الأطفال في الإسلام مستوعباً شفافاً للأفكار والقيم والأعراف والتقاليد
ومزرعة بتول للأخلاق والمفاهيم الإسلامية..
ويولي الإسلام أهمية خاصة لهذا العنصر الرئيسي في تشكل أمة المسلمين، فقد فرض الله
على آبائهم وأمهاتهم واجبات دقيقة تحدد كيفية تربية الطفل وتنشئته وتأهيله ليأخذ
دوره في المستقبل.
وأعطى الله للأب والجد حقاً إلهياً عظيماً يتمثل بالولاية على هذا الطفل والتصرف
بأموره وتأديبه، فإذا ما ذهب عنه الأب والجد وجب على الحاكم الشرعي أن يتولاه،
عموماً.
كما أن الشريعة المباركة تعتبر القاصر أحد الذين رفع القلم عنهم والذين سقط عنهم
(ما وجب على غيرهم من البالغين) من عبادات وخلافه..
ومن منطلق هذه الولاية الخاصة وجب على ولي أمر الطفل أن يربِّيه ويؤدّبه لأنه مسؤول
أمام الشرع الإلهي "عن أي أذى قد يلحقه الطفل بنفسه أو في المجتمع".
عموماً فإن هذه الأمور أصبحت من البديهيات في الشريعة الإسلامية وقد أجمع عليها
الفقهاء وأقروا بها، كإحدى أصغر مصاديق الولاية.
والطفل في عصرنا الحاضر هو
الهدف الرئيسي الأول للصراعات الثقافية بين الإسلام الذي يطرح نظاماً متكاملاً
للحياة وغير الإسلام الذي يُطرح على أنه (بديل الدين في صناعة الإنسان).
فخلافاً للثقافة الإسلامية التي تسعى لترقية هذا الطفل وتهيئته لشغل مسؤوليته في
الأمة وإطلاق إبداعات الخير فيه.. نرى بأن الثقافات الأخرى (الوضعية) تخضع
لنظريات أفراد ما زال يغلب عليها طابع التجربة، وخير مثال على ذلك نظريات فرويد
وداروين ودوركهايم وغيرهم من الذين أثبت تلامذتهم أنهم وقعوا في مغالطات كبيرة في
أكثر من جانب تفضي بالنتيجة إلى نسف نظرياتهم من الأساس.
وقد دخلنا مؤخراً في عالم السيطرة الكثيفة للإعلام وباتت غالبية النظريات تعطي
مساحة هامة لأثر الإعلام السيكولوجي في التربية وفي صناعة "القيم" وما إلى ذلك من
تداخلات قد تكون مدمرة أو ذا وجه هدام.
"... ولكي نمنع الجماهير من أن تتخذ مستقلة، أي قرار فإننا نلهيها بالألعاب
ومشاهد الترفيه".
والذي بيننا وبين الغرب هو صدام على عدة مستويات، وإعلامه يتجسّد في شكل استعمار ثقافي جديد ذلك أن العملية الإعلامية تتم في اتجاه واحد لتقدم لنا صورة غير صحيحة وفارغة ومشوّهة تنعكس هي ذاتها في وسائل إعلام الدول الإسلامية ممثلة غزواً ثقافياً يصل إلى حد أن صورتنا نحن إنما تصل إلينا عن طريق أعين غربية، لا تبتغي إلا زرع الفراغ عبر برامج الترفيه. ففي الولايات المتحدة أعلى بلد منتج لبرامج الأطفال في العالم، أصبحت صناعتي التسلية والترفيه، أسيرة الدعاية الأسطورية التي تقول إن عالم الخيال المصنوع أصبح في الوقت الحاضر منتجاً يتم تصنيعه، وينكر أي قيمة لتأثير هذه البرامج أو اتصالها بالقضايا الجادة للعالم.
وفي الجانب الأيديولوجي
يؤكد المختصون على عدم براءة الإعلام الأميركي أو القيِّمين على برامج الأطفال فيه
من تهمة "التبشير الأيديولوجي لمفاهيم الليبرالية الأميركية". فهذا أريك بارنو مؤرخ
التلفزيون الأميركي يؤكد بأن برامج الأطفال والترفيه. "هي في الأساس دعاية تروج
للوضع الراهن"، ويؤكد المختصون أنه على الرغم من التعدد الكثيف في وسائل الإعلام
والاتصال الأميركية فإن كل أجهزة الإعلام هذه تنقل نفس الرسالة، ولكن كل بأسلوبه
الخاص وشكله المفترض..
ففي أحد البرامج التعليمية الأميركية الواسعة الانتشار التي يقال أنها تصل لحوالي
10 ملايين طفل أميركي تطرح الأمثال التالية في زمن الحرب الباردة بين (روسيا
وأميركا).
* مسألة حسابية للأطفال بين 9 و11 عاماً.
"إذا لم نستعمل قنابلنا النووية ضد روسيا في المستقبل القريب، فإن روسيا ستصمم
قنابلها النووية لاستعمالها ضدنا، وتبعاً للجنرال جونس هناك احتمال بأن يموت 60
شخصاً من أصل 80 والباقي جرحى في حال الخطر نتيجة أي هجوم نووي. فما هي نسبة الشعب
الذي سيموت في مدينتنا من جراء تفجير القنابل النووية الروسية؟".
وفي فيلم رسوم متحركة اسمه "علاء الدين" وضمن إخراج موسيقي ومحيط مرئي خلاب،
أدخل صانعو الفيلم من اليهود أفزع الصفات الوحشية ضد العرب والمسلمين في محاولة
لتصويرهم كوحش بشع..
وفي الكتب المدرسية يجري تصوير الطفل المسلم بأنه جاهل أُمّي متخلف خلافاً للطفل
اليهودي أو الغربي.
أما في أفلام سوبرمان والبطل الخارق فهناك صناعة متقنة غير بريئة لنموذج الإنسان
الخارق الذي يمثل "شعب الله المختار" والذي يزاوج بين هذا المفهوم والمفهوم الفلسفي
للإنسان في الفكر الليبرالي الذي ينظر للإنسان "الإله"! الذي لا يموت.
وفي أفلام كرتونية أخرى موجهة بشكل خاص للعالمن الثالث وأخرى للعالم الإسلامي، نلاحظ السعي الحثيث لإدخال مفهوم خبيث قد يدمر إذا لم يعالج، وهذا المفهوم يشير إلى نموذج الكائن السيئ الأخلاق، ككائن بطل مرغوب محبب وفيه من الصفات السيئة ما يكفي لتشجيع الطفل على اكتسابها بفرح، فهو الشره في "ساسوكي"، البخيل المرابي في حالة "العم ذهب"، العنيف في حالة "توم"، الحسود في حالة "دونالد داك"، الماكر في حالة "روجر رابيت"، الساذج في حالة "بينك بنتر"، الكسول في حالة "أطفال دونالداك الثلاثة"، مدمر في حالة "دينس" وغير ذلك من عشرات الحالات التي تجعل من الطفل مستوعباً للصفات السيئة التي تستقر في داخله حتى تحين أول فرصة للتفلت من الرقابة.
وقمة ما يقدم مثلاً من
احتقار ومحاولة مس بالشعائر الإسلامية هو تقديم "الخنزير" في الرسوم المتحركة كأكثر
الشخصيات المحببة، المظلومة، غير العدوانية وما إلى ذلك.
أما في البرامج الموجهة محلياً فنرى بأن العبثية والفوضى تميز أكثر من جهاز ومحطة
تلفزيونية، حيث يجري جمع عدد من المواضيع غير المترابطة داخل فترة تسمى فترة
الأطفال، في حين تسعى محطات ثانية لترويج الدعاية الفرنكوفونية كأن تكون كل المادة
من أغانٍ للأطفال، إلى ألعاب ترفيهية ومسابقات، وقصص وشخوص هي مادة فرنكوفونية
مصنوعة لبلد غير لبنان ولكنها تبثّ في لبنان.
وفي محطات أخرى هناك حض على العيش ضمن مجتمعات ثرية وكأن النسبة الساحقة من أطفال
لبنان الفقراء ليست معنية ببرامج الأطفال التي تبث، أو لإشعار الطفل الفقير "بأن
بيئتك هي التي تفرض عليك الفقر ولكن الواقع هو خلاف ذلك لذا فانظر إلى الحقيقة التي
تبث في هذا البرنامج"، نفس هذه المحطات تبث برامج من إنتاج محلي وبلسان محلي هي في
خطورتها أش وقعاً وأعظم خطراً من البرامج الأجنبية المماثلة، فهي تشجع على "الفساد"
بكل ما للكلمة من معنى، من خلال، الرقص الداعر، وتصنع التحرر ونقل صورة حرية فلان
أو فلانة باتخاذ صديق له أولها من الجنس الآخر وما يقارب ذلك من إيحاءات تشير إلى
"حميمية هذه العلاقة المشبوهة والمحرمة في العرف الأخلاقي اللبناني العام".
أما محطات الدولة فيبدو
أنها بدأت تترك محافظتها وتعب القيمين المشكور على برامج الأطفال فيها وتتجه نحو
إعلام أطفال عابث مقلد للآخرين وجل ما كانت تعرضه مؤخراً اختصر ببرنامج واحد هو
عبارة عن مسابقات عقلية ورياضية للأطفال إلا أن هناك تخطيطاً لتخريب هذا المنحى
الملتزم لمصلحة الاتجاه المهين.
تبقى أخيراً المحطة الإسلامية الرائدة في برمجة إعلام هادف ومؤسس لثقافة إسلامية
وأخلاقية للأطفال وقد نجحت المحطة طوال السنوات الخمس الماضية بالتطور قدماً في
برامجها، إلا أنها لم تتخلص بعد من أسلوب الخطاب المباشر في قضايا أساسية وحساسة
يجب أن ينشأ عليها الطفل، ولكنها تعوض عن ذلك بإتقان رسالة خطابها المباشر عبر
تقنية المفردات والمصطلحات التي يخاطب بها الطفل بشكل تكراري مما يزرعها في نفسه
وعقله وقلبه لا أن ذلك رهن بتطوير التقنية الفنية من صورة وصوت ومونتاج وميكساج
وألوان، ورهن بنقل نفس الرسالة بأسلوب مشوّق وسلس لا يعتمد التلقين المدرسي فقط بل
يعتمد كذلك على إبداعات الأطفال أنفسهم، وهم في الغالب أنضج فهماً وتحليلاً من
أطفال "التلفزيونات الآخرين"، وثمة شريحة واسعة من أطفال هذه المحطات منتسبة إلى
الكشافة وهي مصنع صقل الطفل ودائرة إبداعاته فضلاً عن ضرورة اعتماد التغيير
والتجديد في فقرات البرامج لأن غالبية التغيير حوالي (60 ـ 70%) يكاد يكون تغييراً
في الديكور وليس في الشكل والمضمون، ولا بأس من متابعة أنشطة تعليم القرآن التي
يحظى الأطفال الآن بنسبة أكثر من النصف منها.
إن الطفل هو أمانة في
أعناق غير فرد من أفراد الأمة فهو مسؤولية، الأب والأم والمدرسة والقيمين على أعلام
الطفل الخاص ويجب في هذا المجال على الجميع أن يأخذوا مسؤولياتهم لأنهم مسئولون
أمام الله، بحماية الأجيال ومشاركتها بصناعة غد أفضل يمهد لصبح قريب.