رئيس التحرير
الإسلام الذي جاء ليكون الرسالة الخاتمة لكل الرسالات التي مهّدت الطريق له والتي
أنضجت بتعاقبها المجتمعات لتصل إلى مستوى حمله والالتزام بهديه التزاماً عملياً
بعيداً عن أساليب النظريات البحتة وأسلوب التنظير الذي عانى منه الإسلام معاناة
شديدة، وعانى أيضاً من رجاله الذين اقتصر فهمهم للإسلام على حرجة اللسان ولقلقته
حتى ليظن السامع الساذج أنه أمام نماذج عديدة من الفلاسفة ممن يوحون أنهم يرسمون
المستقبل الزاهر بألسنتهم وكلماتهم التي تمجهم وربما لعنتهم، وكأنهم خُلقوا للتنظير
ليس إلاّ، أما الآخرون فإن عليهم واجب العمل من وحي تنظيرهم.
وإذا ما سألنا عن الحاجة الحقيقية التي تتطلبها أمتنا العزيزة نخرج بنتيجة حتمية لا
تقبل النقاش أو الجدال، إننا بأمس الحاجة إلى العاملين والمجاهدين والكادحين
العابدين و.. أما البكاء على الأطلال، والمناقشة في كل ما قيل ويقال، والمباراة في
شتى أصناف الجدال فلا شيء من هذا نحتاجه ولا ندعو لتحقيقه في الليل والنهار.
فنهضة الحسين عليه السلام وملحمته لم تنتفع بكل الكلمات المشفقة، ولم تستفد من الرجال الذين آلمهم أن يلاقي الحسين عليه السلام شهادته ونساءه سبيهَن، إلا أنهم بقوا في المدينة خائفين مترقبين منتظرين، وما خطاب عابدة آل علي بطلة الطف إلا الشاهد على ما ذهبنا إليه، وهي التي خاطبت أهل الكوفة وأنّبتهم بعد واقعة كربلاء لأنهم كانوا بعيدين عن تحمل مسؤولياتهم حين تركوا الحسين وحيداً في كربلاء وباتوا ينظّرون للاستسلام لقدر الحكومات، ولم يبذلوا مع سبط النبي الدماء، بل كانوا يطلقون الدموع حزناً على ما جرى لموكب النور الإلهي، فقالت لهم وهم مجتمعين ".. أتبكون وتنتحبون؟! أي واللَّه فابكوا كثيراً وأضحكوا قليلاً فلقد ذهبتهم بعارها وشنارها، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبداً ـ أي ل تزيلوا وصمة العار هذه ـ وأنّى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة، ومعدن الرسالة..".
ذلك أن نداء الجهاد بمنطق
الأولياء إذا ما أُعلن فإن الكلمات التي تقال حياله إذا لم تكن هي جزء من مهمة
الجهاد وليست كل المهمة، فهي تحمّل صاحبها مسؤوليات جسام لعلمه ومعرفته بالحق في
الوقت الذي تقتصر فيه مهامه على حركة اللسان ولوكه يميناً ويساراً وربما سلق
العاملين بألسنة حداد ورماهم بشر التنظير المستطير، وللدلالة على عمق الألم جرّاء
التنظير نقول: لو تعرّضت لأذى ما وصرت بألسنة حداد ورماهم بشر التنظير المستطير،
وللدلالة على عمق الألم جرّاء التنظير نقول: لو تعرّضت لأذى ما وصرت على شفير الموت
(لا قدّر اللَّه) حين تصرع أمواج البحار وصرخت مستغيثاً: النجدة ـ النجدة،
وصار كل من حضر مشهدك يبلِّغ رسالة استغاثتك ولا يغيثك، وربما جلس الحضور في
الأثناء وشكّلوا ما يشبه الندوة الفكرية التي تريد البحث في عملية الغرق ولماذا إذا
طال مكث الإنسان في الماء فإن عليه أن يواجه الغرق المحتم؟ فيقدم كل واحد من الحضور
مداخلة ربما يصفها البعض بأنها قيّمة ومفيدة، كل هذا يحصل وصاحبنا ـ الذي هو أنت
حسب الفرضية ـ بات على قاب قوسين من الموت أو أدنى، وأصحاب النظريات والمداخلات
(عفواً الفلاسفة) كلّ يدلو بدلوه ولا تجد من يركض لنجدة وإنقاذ من كفر بكل
المنظرين والشاهدين على جريمة الإغراق ـ لا الغرق ـ فالإنسان الخليفة لم يخلق ليشبع
دنيا الناس بالكلمات والخطابات الرنّانة والمفردات الجميلة ـ البكر ـ والإسلام لم
يكن في لحظة من اللحظات مجرد أماني وأحلام وكلام، فهو عمل وجهاد وفعل، والقول هو
بعض الفعل كما أوضحنا، والمفاهيم الإسلامية قيمتها فيجسدها وإلاّ فما أسهل من
الكلام ففي المثل الانكليزي (الثرثرة وحدها لا تسدِّد الضرائب).
وللمزيد من الأمثلة، نذكر إيثار أبي الفضل العباس الذي جسَّد الأخوّة الإسلامية
أروع ما يكون التجسيد، فهو عندما يكتب التاريخ عنه ويدوّن اسمه على الصفحات
النورانية لا يكتب عن عدد كلماته ومقدار بلاغته، بل يكتب عن تجسيده العملي للإيثار.
أما عن لآيات الكثيرة التي نزلت بحق أهل البيت عليهم السلام فهي ما نزلت إلا
لتمدح فيهم الإيثار العملي كسورة
﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ
مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا﴾
والتجسيد الذي قدّمه اللَّه لنا كأنموذج يُحتذى به سواء كان على مستوى
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ
رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾،
أو على مستوى
﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ
يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾.
نقول هذا: لا لننسف من قاموس أعمالنا التخطيط، ولا لنؤكد العشوائية في تصرفاتنا دون
إمعان نظر في الخطوات وهل هي مدروسة ومجدولة ومبرمجة زمنياً ومضمونة النتائج أم هي
كخبط عشواء مبنية على المراهنة على الحظوظ وحسن الصّدف لكن هذا شيء، والتنظير
المميت شيء آخر، ولا نعتقد أن عاقلاً يضيع بين هذه وتلك.