نهى عبد الله
"إن المنبر الحسينيّ يعني إحياء القيم المعنويّة الإلهيّة،
والمحافظة عليها"(1). بهذه الكلمات القليلة يشير وليّ أمر المسلمين السيد الخامنئيّ
دام ظله إلى سرّ مكنون يؤدّيه المنبر الحسينيّ، دون أن يلحظه كثيرون، لكنّنا جميعاً
نستَقي منه دون أنْ نشعر.
لطالما كان ذاك المنبر باباً لمعرفة الله ومعرفة دينه، بل سبباً لظهور حالات الحبّ
والودّ والشوق إلى العبادة والالتزام بها لو كلّفت تعباً وجهداً، أو أدّت إلى بذل
نفس كما يحصل في الجهاد.
- هل جربّت أن تنادي يا حسين ليصفعك أحدهم، أو يقتادك إلى السجن أو يأمر بقتلك؟
فقد استشعر الأعداء عبر التاريخ مكامن هذه القوّة، وكثيراً ما حاولوا منع نفوذها،
بوسائل شتّى وأزمان مختلفة، وفي بعض البلاد، ليس زمن المنع ذاك بعيداً. ومحبّو
الحسين يقبضون على جمرة حبّهم في قلوبهم ويبتدعون الوسائل لينادوه "يا حسين".
في هذا المقال ستقرأ عن حالة ممانعة غريبة عبرت التاريخ، لم يتمّ الاتفاق عليها ولا
التنسيق لها، كلّ ما في الأمر أنّ قلوبهم ثارت مرة واحدة لتقول: "حبّ الحسين أجنّني"..
* المتوكّل العبّاسي: تهديد وإجرام
من المعروف أنّ أوّل من منع زيارة الحسين عليه السلام هو "المتوكّل" العباسي، حيث
أعلن أنّه سيعاقب كلّ من يأتي لزيارة المكان بقطع يده، لكن هذا التحذير الذي أعلنه
المتوكّل لم يكن مؤثّراً على الزوّار، فاستمرّوا بالوفود لزيارة الحسين عليه السلام،
وتنقل بعض المصادر أنّ رجال المتوكّل لم يتمكنوا من قطع أيدي بعض الزوّار والسبب
أنّها قد قطعت في زيارات سابقة. فعمد "المتوكل" إلى هدم ضريح الإمام الحسين عليه
السلام والأبنية الموجودة حوله بسبب عداوته للشيعة، وحوّل كل تلك الأراضي إلى
حقول(2).
* الحكم العثماني ومنع العزاء
يُجمع المؤرخون والمتابعون لتاريخ إحياء شعائر محرّم على أنّ مجالس العزاء في بلاد
الشام قديمة قدم وجود الشيعة في هذه الأرض، ولم يتوقّفوا في أيّ من المراحل عن
إحيائها، أمّا شكلها كمراسم خاصة، فإنّ بداية إقامتها في لبنان يعود إلى القرن
التاسع عشر، حين أخذت بعض العوائل اللبنانيّة تقيم مجالس العزاء الحسيني في العشرة
الأولى من شهـر محرم من كلّ عام، خاصّة في مدينَتي النبطيّة وبنت جبيل. وتعرّضت هذه
الشعائر إلى المنع من قبل السلطة العثمانية، فاضطرّ أهالي جبل عامل إلى إقامة مراسم
عاشوراء سرّاً في بيوت الأقارب والأصدقاء، بعد وضعهم رقيباً ينذرهم بوصول الدوريات
العسكرية العثمانية، التي كانت تدور في الشوارع والطرقات أيام عاشوراء بحثاً عن
مخالف لتعاقبه، فيتحوّل مجلس العزاء تلقائياً إلى اجتماع للأقارب والأصدقاء وتناول
الشاي والحلوى. علماً أنّ الشعائر الحسينية آنذاك كانت مقتصرة على قراءة سيرة
الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته وما جرى عليهم في كربلاء(3) فقط، ولا تحتوي
على محاضرة علميّة أو مواقف سياسيّة.
* العزاء الحسيني يُقام ولو في الحقول
أمّا أهل القرى الصغيرة في جبل عامل، فيروي كبار السنّ عن أجدادهم، أنّهم كانوا إذا
جاء شهر محرم يلجأون إلى الكهوف والمغاور خارج القرى؛ لإحياء مراسم عاشوراء التي
منعها العثمانيون طوال فترة حكمهم للمنطقة.
ومنهم المزارعون الذين كانوا يحملون المنجل والرفش في أيديهم وهم يتحلقّون حول
الخطيب أو القارئ في دائرة صغيرة في حقولهم ومزارعهم، يستمعون العزاء ويبكون الحسين
عليه السلام، ويتركون مراقباً لهم فوق شجرة باسقة، يراقب غباراً تثيره أحصنة العسكر
العثماني في حال حضروا، فيقوم بفرد عمّته البيضاء وربطها بعصا ملوّحاً بها عاليّاً،
ليتنبّه المزارعون ويتحوّلوا إلى الحقول، ليتابعوا عملهم ريثما ترحل الدوريّة(4).
لقد اعتاد أهالي جبل عامل تحدّي السلطة الحديديّة للعثمانيين، وأصرّوا على شعائر
كان إحياؤها يشكّل استحقاقاً وجودياً لهم ولحضورهم في ذلك الجبل.
* النبطيّة تصفع الإسرائيلي في العاشر(5)
عُرفت مدينة النبطية التي تأسّست فيها أوّل حسينيّة في جبل عامل "حسينيّة النبطيّة
التحتا" بحادثة لا تُنسى، بل تُسجّل بافتخار في تاريخ المقاومة، وجذوتها كان "الحسين
عليه السلام ". فبعد الاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان اقتحم الجيش الإسرائيلي مدينة
النبطية في يوم العاشر من عام 1983م، أثناء إقامة المسرحية الحسينية التي تُقام
سنوياً في المدينة، لمنع التجمعات التي تخيفه، لكن سرعان ما ندم الجيش المحتل، إذ
تحوّلت المسرحية والمسيرات الحسينية التي ترفع شعارات "هيهات منا الذلّة" وغيرها
إلى مواجهات دامية مع جنود الاحتلال، انسحب الإسرائيليون على إثرها من ساحات
المدينة، وقد لُقّنوا درساً ظلّوا يدفعون تكلفته حتى أيار/مايو ۲۰۰۰م. فلا يمكن
هزيمة شعب يحمل فكر الحسين عليه السلام، ويتفاعل مع حادثة استشهاده ويرفع شعار: "كل
يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء".
* صدّام العراق ومنع العزاء
من زار الإمام الحسين عليه السلام، أيّام حكم المخلوع صدّام حسين، رأى بنفسه حجم
الخوف من إحياء الشعائر الحسينية، ورأى آثارها وتهديدها لحكم ظالم.
لم يُسمح في أيام عاشوراء حينها إلّا بارتداء السواد، أما قراءة العزاء أو اللطم أو
أن تنادي "يا حسين" فقط، فتلك جريمة عقابها الأدنى هو التعذيب والضرب، والأقصى هو
الموت. أمّا يوم العاشر، فتُطوّق دبابات النظام مرقدي الإمام الحسين والعباس L في
كربلاء، مع عربات محملة بصواريخ قصيرة المدى، موجهة إلى المقام الحسيني في مشهد
ساخر؛ أن توجه صواريخ على ضريحٍ فقط، فيما ينتشر عدد كبير جداً من المسلحين
الملثّمين حول المكان، يراقبون الناس، فلا يسمح لك بأكثر من أن تسير في شوارع
كربلاء بدمعة في العين، والباقي كله ممنوع، والمخالف على موعد مع الموت.
رغم ذلك، كان يتحلّق العراقيون ليتلو أحدهم المصرع بهمس خفيف في الباحات والأزقّة،
وفي حال وشى بهم جار يتعاون مع استخبارات النظام، ظهرت الأطعمة وتظاهروا بأنّهم
جيران يجتمعون على الطعام فقط. أما النسوة، فتراهنّ يجتمعن في زاوية في الحضرة
الحسينية أو الحسينيّات يُخفين قارئة عزاء بعباءاتهن، ويتظاهرن أنّها مريضة وهنّ
مجتمعات لإسعافها. فلم يكن النظام يُبدي أيّ احترام لحرمتهن أو لحرمة حجابهن،
وعليهن اختلاق الأعذار(6).
* القطيف وتحرير الدماء
يصعب وصف ما يمرّ به أهل القطيف الذي وصل إلى حدّ الإجرام وإبادة العائلات جملة،
بسبب تمسّكهم بهذه الشعائر، فقد تمّ قصف منطقة كاملة في عام 1979م/ 1400هـ، من قبل
قوات الحرس السعوديّ، لإحياء أهلها الشعائر الحسينية يوم عاشوراء وسُمّيت الحادثة
بـ"انتفاضة القطيف"(7). واليوم، ما زالت تُقتل العائلات وتُفجّر بهم الحسينيات.
يروي أهل المنطقة أنّ العزاء ما زال سرّياً، رغم تظاهر الحكم بالسماح لهم ببناء
الحسينيات التي بقيت ممنوعة لعقود عدّة، مقابل ذلك يُمنع العزاء، وتراقب الدوريات
أي تجمّع يُشتبه بأنّه من الشعائر الحسينية، لذلك تتحوّل هذه الاجتماعات أيضاً إلى
لقاء عائلي أو عشاء لتمضي دون فاجعة أخرى.
أمّا من يصرّ على إقامة الشعائر فيُقتاد إلى السجن، وليس بحاجة إلى تهمة إضافيّة
لتنفيذ حكم الإعدام به. رغم ذلك، ما زال العزاء الحسينيّ مستمراً في قلوبهم، ظاهراً
في صمودهم.
* وبقي الحسين عليه السلام
بين الأزمان والأمكنة تغيّرات وتحوّلات، من إحياء سرّي مشوب بالخوف والقلق الوجودي،
إلى زمن يخرج فيه الشيعة يوم العاشر من المحرّم من كلّ عام في تظاهرات عارمة هي
الأكبر والأضخم في التاريخ: لبنان، العراق، إيران، البحرين، اليمن... الشيعة في كلّ
العالم أيضاً يخرجون دون اتّفاق بينهم. هذه المسيرات ستبقى الأكثر تأثيراً في
مجريات الأمور وتطوّراتها محلياً وإقليمياً، وسيهابها كل من يُمثّل يزيد العصر؛
لأنها كما عبّر السيد القائد: إحياء للقيم المعنويّة الإلهيّة... وهي إحياءٌ لنبض
العدالة في عروقنا.
1.من خطـــاب للسيـــد القائــد دام ظله، بمناسبـــة ذكــرى مولد الإمام
الحسين عليه السلام، بتـــاريخ 12/6/2013م.
2.يراجع: كـــربلاء فـــي الأرشيف العثماني (دراسة وثائقيّة)، ديلك قايا، ص25.
3.راجــــع: تراجيــــديا كـــــربلاء (سوسيولوجيا الخطاب الشيعي)، إبراهيم الحيدري،
ص145-147.
4.مقابلات شفهيّة مع كبار السنّ من القــــرى الحدودية، بتاريــخ 18/8/2017م.
5.يراجــــع: صحيفة السفير، 18/ تشرين الأول/ 1983م (أرشيف)، والمواجهــــة كـــانت
بتاريـــخ 16/10/1983م.
6.مشاهدات حيّة، 2002م.
7.موقـــع العهد الإخبـــاري، مقال: انتفاضــــة محـــرم في القطيف، بتاريخ
1/11/2014م.
القطيف
علاء محمد
2017-10-08 13:17:31
السلام عليكم انا من القطيف المقال من ناحية القطيف صحيح سابقاً وكنا لا نستطيع القراءة او اقامة العزاء بالشوارع وذلك بسبب مضايقات الحكومة واعتقال الرواديد والزج بهم في لسجون وهدا كان بحكم لملك فهد والان بحمدالله وعزته وتمسكنا بحب الامام الحسين ع وببركة دماء شهدائنا الابرار الذين سقطوا برصاص الحكومة نبتت هذه الدماء المباركة وتحررت وخرجت المواكب العزائية بالشوارع العمامة من 2012 ولحد هده اللحظة يوم العاشر والاربعين ووفاة النبي محمد ص نخرج بكل حرية بالشوارع والحسينيات واحيانا تحت مرئ الدوريات الامنية وسنظل في كل عام نصرخ لبيك ياحسين ونرفع رآيات الحسين بالطراقات .. وشكراً لادرة الموقع