تحقيق: كوثر حيدر
"هناك حصاد أحلامكم وبناء مستقبلكم، وهناك ستحيا عيشة
الكرام". هكذا يُقال عن بلاد الاغتراب، ويقال إنّها "بلاد العجائب"، إنّها حقّاً
بلاد العجائب.
* تدَّعي أنّها "بلاد الحريّات"
جمالُ بعض تلك البلاد الباردة لم يكن يوماً دافئاً! رغد الحياة ورفاهه مرهونان
بأثمان باهظة لا تُشبه العملة الورقيّة. التّطوّر الذي غرق فيه العالم اقتصاديّاً
وتنمويّاً فشلوا به "هُم" اجتماعيّاً. فعلى الرّغم من الشّعارات الرنّانة التي
تطلقها شاشاتهم، إلّا أنّ الغرب يعاني نقصاً حادّاً في فيتامين "الإنسانيّة". هناك
كمٌّ كبيرٌ يعاني وحشيّة العنصريّة والتمييز، على الصّعد كافّة، إن في اللّون أو
الجنس أو حتّى الدّين. كلّ تلك الجمعيّات والمؤسّسات المحاربة للتّفرقة ما كانت
إلّا نتيجة تفاقُم القمع الإنسانيّ في "بلاد الحريّات".
* الحجاب حريّة معتقَد
"الحجاب"، أحد رموز الحريّة المطلقة في الاعتقاد الدّينيّ، أصبح مرهوناً بقانون في
مجلسهم.
في هذا المقال قصّة ثلّة من الفتيات الملتزمات اللّواتي وضعهنّ القدر في تلك البلاد.
"انتقلتُ بشكل كليّ إلى لبنان. أحد أهمّ أسباب الانتقال كان صعوبة ممارسة حياتنا
بشكل طبيعيّ كفتيات محجّبات". هكذا تصف مريم البلد الّذي وُلدت ونشأت فيه. فمريم
فتاة لبنانيّة الأصل تعيش في المهجر، ترعرعت وسط أجواء عائليّة ملتزمة دينيّاً،
نشأت على مقربة من الجالية اللّبنانيّة والمساجد التي كانت عاملاً مساعداً في
الحفاظ على دينها.
كان الأمر طبيعيّاً في البداية حتّى دخولها المدرسة؛ إذ إنّها فتاة محجّبة منذ سنّ
التّكليف. "نشأتُ في مدرسة تستقطب أنواع النّاس على اختلافهم، إلّا أنّ أمر الحجاب
كان ولا يزال موضع تساؤل. بعضهم يعتقد أنّ الأمر يرمز إلى أمراض في الجلد أو الشّعر!
هذه النّظرة إلى الحجاب كانت مؤذية، خصوصاً للفتاة في أوّل نشأتها. أحد أهمّ أسباب
العودة إلى لبنان كان في صعوبة ممارسة حياتنا بشكل طبيعيّ كفتيات محجّبات هناك،
مروراً بأقلّ التّفاصيل كالمصافحة بالكفّ. هذا الأمر كان محرجاً في العديد من
المواقف! أذكر مرّة قال لي أحدهم إنّه غسل يديه ظنّاً منه أنّ الأمر يتعلّق
بالنّظافة".
* شعرتُ بالعنصرية وانحدار القيم
يدخل الحجاب في الأمور المصيريّة لدى الفتاة؛ إذ تذكر مريم حادثة تعرّضت لها خلال
تقدّمها إلى إحدى المؤسّسات مؤخّراً في ظلّ الأوضاع الّتي يمرّ بها الإسلام من
تشويه وما يُعرف في الغرب بـ"الإسلاموفوبيا"، فتقول: "أجريتُ مقابلة عمل وسارت بشكل
جيّد، إلّا أنّ العذر كان أنّني لا أمثّل دولتهم وبلادهم. كان وقع الكلام مؤلماً،
حيث أشعرني بعدم الانتماء إلى البلد الّذي ولدت ونشأت فيه!".
رؤية التّفلُّت الأخلاقيّ وانحدار مستوى القيم، خصوصاً في ما يخصّ المرأة، بدءاً من
التّحرش بها إلى معاملتها الرّخيصة، تؤكّد على أهميّة التّمسك بالحجاب، كما إنّها
تخلق نفوراً عند المرء من حبّ الانتماء إلى هذا المجتمع، بحسب مريم، "كم هو جميل ما
يقدّمه الحجاب من قيمة في التّعامل مع المرأة؛ فلا يُتعامَل معها بناءً على الشكل
والجسد، إنّما بناءً على عقلها ومضمونها. كم أنّ الحشمة جميلة! لو تعلم المرأة التي
ابتعدت عن الحشمة حجم الخسارة المعنويّة لها!".
* الحجاب أشعرني بالثقة والأمان
سارة (24 عاماً) لم تنشأ في بيئة ملتزمة دينيّاً. كان "الحجاب" قراراً شخصيّاً
وعفوياً بامتياز. تحجّبَتْ في عمر الـ14 عاماً؛ تأثُّراً بصديقات لها خلال دورة
للقرآن الكريم وهي صغيرة. "كنت أنجذب عند رؤية الفتيات المحجّبات وهنّ يصلّين". لم
تلقَ سارة تشجيعاً ولا منعاً من أهلها على هذه الخطوة، إلّا أنّ الوالد شدّد على
ضرورة الالتزام بهذا القرار بمجرّد اتّخاذه.
"شعرت بعدم الرّاحة في ملابسي الضّيّقة وعلاقاتي الاجتماعيّة الخارجة عن الحدود. كلّ
شيء تقريباً تغيّر بعد ارتدائي الحجاب، ووجدت الأمان والرّاحة، حتّى إنّي لمست
احتراماً من أصدقائي على هذه الخطوة وقد ظهر هذا الأمر جليّاً". أضافت: "لو كانت
الأحوال مغايرة، ووقف المجتمع بوجهي في ما يخصّ الحجاب، لازددت قناعةً وإيماناً
بقراري".
الإسلام كرّم المرأة بهذا اللّباس، "فالحجاب أشعرني بالثّقة والرّاحة والأمان في آنٍ
واحد، ومنحني القوّة. المرأة يتمّ تمييزها عنصريّاً بتعرّيها، بلباسها الضّيّق
وقلّة احتشامها. هذا ما يضع حدوداً في وجه المرأة. "الحجاب" من اسمه هو حاجب وحماية
بوجه النّفوس الضّعيفة ومن كلّ ما قد تتعرّض له المرأة من مخاطر. الحجاب يجبر
المُخاطب على التّعامل مع المرأة وفقاً "لثقافتها ومضمونها". هذا الشّعار الّذي
يتغنّى به الغرب، في الوقت الّذي يدعون فيه المرأة للتّعري!".
تعتبر سارة أنّ الحجاب يقترن بالخُلُق الحَسَن، فتقول: "يجب الالتفات إلى أمر مهمّ
لا ينفصل عن مبدأ الحجاب المحاط بأطر شرعيّة محدّدة، وهو مبدأ المعاملة. المرأة هي
التي تعطي انطباعاً جيّداً عن الحجاب وتفرض احترام الآخرين لها. على المرأة أن تعلم
أمراً مهمّاً هو أنّ قيمتها تكمن في جوهرها ومضمونها. فعندما تطلي نفسها بأدوات
التّجميل وترتدي الملابس الضّيّقة، هي تعمل على إزالة جوهرها، الّذي جاء الحجاب من
أجل صقله".
* الحجاب واجب رساليّ
"ميرا" ابنة البيت المحافظ والملتزم دينيّاً في بلاد المهجر، تصف تجربتها بالغنيّة،
وتعتبر وجودها كفتاة أجنبيّة محجّبة واجباً رساليّاً في تلك البلاد. نشأت "ميرا" في
بيئة اجتماعيّة محدّدة، فلم يكن هناك اختلاط بالمجتمع الخارجيّ الغريب على الإطلاق.
والمدرسة الخاصّة الّتي ارتادتها كانت إسلاميّة، هذا الأمر مهّد بالنّسبة إليها
الطّريق لالتزامها.
"الأمر اختلف في الجامعة، الأجواء مختلطة على خلاف المدرسة والبيئة الّتي نشأتُ
فيها. هناك من تقبّل الحجاب وهناك من كان يوجّه الكلام بقصد التّجريح. بعضهم كان
يقول لي طالما إنّني موجودة في هذا البلد فيمكنني أن أخلعه! كنت أردّ وأقول إنّ
الحجاب جزء من التزامي بديني واعتقادي. وبعضهم يقول: "لماذا يعذّبك ربّك بالصّيام!"
كنت أجد صعوبة في الرّد أحياناً، ما اضطرّني إلى أن اطلع بشكل واسع على الدين، حتّى
أستطيع الرّد بشكل أفضل".
ما كان صعباً في الجامعة، كان سهلاً بالنّسبة إلى ما عانته ميرا في عملها. "هناك
شعرت بالتّمييز الحقيقيّ"! حتّى السّائق الّذي كان يقلّها إلى مكان عملها الّذي
يبعد ساعة عن منزلها، يسألها: "لماذا أنت هنا؟ وكيف ولدت هنا!"، "بالإضافة لأخريات
كنّ يتعمّدن أذيّتي بكلامهنّ، بدءاً من اليوم الأوّل لي في الشّركة، صار الزملاء في
العمل يكرّرون أمامي أهميّة خلع الحجاب وأنّه رمز للتّخلف والرّجعيّة، أمّا "التاكسي"
الذي أستقلّه يوميّاً فكان يستقلّه بعض المتطرّفين الّذين استمرّوا بإهانة الإسلام
والحجاب بحضوري طوال فترة عملي، حيث اضطررت إلى السكوت والصبر كونها الوسيلة
الوحيدة الّتي أصل من خلالها إلى العمل".
المجتمع هناك بعيد عن الدين، والمؤمـــن هنــاك بغضّ النّظـــر عن انتمــــائه
الدّينيّ يتعرّض للتّهكم؛ ما قد يزرع الشّكّ في بعض النّفوس "كانت تراودني في بعض
الأحيان تساؤلات حول أصل فكرة الحجاب؛ فقد كنت الوحيدة المحجّبة في صفي الجامعي، ثمّ
في عملي، فصرت أسأل نفسي: ما الفرق إنْ كنتُ غير محجّبة كباقي زميلاتي بشكل طبيعيّ؟!
لكن ما حفظ حجابي هو إيماني بالله، وأنّني كنت دائماً أجد نفسي في نقطة تعيدني إليه
سبحانه"!.
تشير ميرا إلى أهميّة وجود المسلمين في بلاد الاغتراب حاليّاً فتقول: "المجتمع
الأجنبيّ حالياً يتوجّس من المسلمين في ظلّ التّشويه الذي يحصل في الآونة الأخيرة.
وأنا أمثّل الإسلام هناك، وأُعتبر مرآة الإسلام بالنّسبة إليهم. وجودنا هناك ليس
صدفة على الأغلب، الحجاب في حدّ ذاته رسالة"!.
مريم، سارة وميرا، بعض حكايا الصّبر العفيف في بلاد الفلتان الاجتماعيّ، بعضهنّ
تعتبر أنّ وجودها "قَدَر"، وأخرى تعتبر أنّ وجودها "رساليّ"، وجلّ ما في الأمر أنّ
المسألة أبعد من أن تقتصر على "الحجاب"، المسألة هي العقيدة الرّاسخة الّتي يحملها
"الحجاب" ويحمّلها هذا الثوب الذي يحكي لغةً أبعد من أن يفهمها الرّاسخون في الجهل!