مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

الموقف الشرعي من قراءة الغيب


الشيخ إسماعيل حريري(*)

كثُر في الأزمنة المتأخّرة، ولا سيّما المعاصرة منها، اعتماد وسائل معيّنة لكَشْف الغيب والإخبار عنه، من قبيل قراءة الفنجان، ضرب الرمل والمَندل، قراءة الكفّ، وفتح المصحف على نيّة أحد ما؛ لمعرفة ما يخبّىء له الغيب، وغير ذلك من طرق ووسائل يتّبعها أُناس نصّبوا أنفسهم عارفين بهذا الغيب على تفاوت في درجات ادّعاءاتهم...

في هذه المقالة سنتوقّف عند الموقف الشرعيّ من هذه الوسائل عبر النقاط التالية:

* أولاً: الغيب ثابتٌ دينيٌّ
من الثابت الدينيّ لدى المسلمين أنّ هناك غيباً، وأنّ الإيمان به أمرٌ لا بدّ منه، بل هو ما صرّح به القرآن الكريم في كثير من آياته الكريمة، وأكّدت عليه السنة الشريفة. قال تعالى: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ (البقرة: 2-3). وقال عزّ وجلّ: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ (الأنعام: 73)، وقال تعالى: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ﴾ (الأنعام: 59).

وفي الروايات: عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام في حديث: "... وأمّا قوله: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ﴾ فإنّ الله تبارك وتعالى عالمٌ بما غاب عن خَلقه فما يقدر من شيء ويقضيه في علمه قبل أن يَخلقه وقبل أن يقبضه إلى الملائكة..."(1).

* ثانياً: ما هو الغيب؟
لغةً: هو ما لا تدركه الحواسّ. واصطلاحاً: هو كلّ ما استأثر الله تعالى بعلمه أن يُطلع عليه أحداً من خلقه إلّا من ارتضى.

فالغيب هو كلّ ما غاب عن حسّ الإنسان، سواء بقي مكتوماً عليه أم كان ممّا يعلمه بطريق معتبر كالإخبارات القرآنيّة، والروائيّة... والقرائن الخاصّة بهما.

وممّا لا شك فيه أنّ الغيب بهذا المعنى يشمل ما كان غائباً ومحجوباً عن الإنسان من حوادث قد مضت، ولم تصل أخبارها إلى الناس، ومن حوادث تحدث في لحظتها ولم يطّلع عليها الإنسان لبُعدها المكانيّ مثلاً، ومن حوادث ستحصل في المستقبل، هو لا يعلمها قطعاً. وبتعبير آخر غيب ما كان، وما هو كائن، وما سيكون إلى يوم القيامة.

كما إنّ الثابت أنّ هذا الغيب إنّما هو غيب باعتبار الإنسان القاصر بحواسّه عن إدراكه والاطّلاع عليه بنفسه، ولكنه بالنسبة إلى الله عزّ وجلّ فهو حاضر مشهود؛ لأنّه تعالى لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، كما في قوله تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾.

* ثالثاً: علم الغيب لله ومن ارتضى
من الثابت الدينيّ، أيضاً، أنّ العالِم بالغيب بعلمه الذاتيّ هو الله جلّ جلاله وتبارك اسمه، دون سواه من خلقه إلّا من أعلمه تعالى بما يشاء ويريد. قال عزّ وجلّ: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾ (الجنّ: 26-27). وسائر الناس إنّما يعلمون بما أتاهم به النبيّ أو الوصيّ من هذه الغيبيات سواء منها الماضي، كما في ما ذكره الله تعالى في كتابه من قصص الأنبياء والأمم السابقة، وكذلك في ما يُخبر عنه من حوادث ووقائع ستقع في المستقبل، فإنّه لا سبيل إلى معرفتها إلّا بإخبارات معتبرة من الله تعالى، أو ممّن ارتضاه لإطلاعه على تلك الغيبيات.

* رابعاً: حُكم هذه الطرق الشائعة بين الناس
ذكرنا في أوّل المقال أنّ هناك من يعتمد في كشف الغيب الحاضر أو المستقبليّ بشكل خاصّ على طرق صارت شائعة، ويعوّل عليها الكثير طمعاً في استفادة دنيوية، سواء من جهة المُخبِر أو المُخبَر، والموقف الشرعيّ من هذه الطرق يتّضح من خلال الآتي:

1- حُكم المشتغلين بها:
لا يجوز الاعتقاد بأنّ هذه الوسائل تكشف عن الغيب بنحو الجزم واليقين، ولا أن يخبر –بناءً عليها– إخباراً جزميّاً بما استوحاه من النظر فيها، لأنّ هذه الوسائل لم يدلّ عليها دليل شرعيّ معتبر. نعم، لو أخبر -بناءً عليها- بنحو الظنّ والاحتمال فلا مانع منه في نفسه، ما لم يترتّب عليه محذور ما من ترويج للباطل أو تشجيع وتأييد له ونحو ذلك من العناوين الثانوية.

2- المُكتسب منها:
فإن كان الفعل حراماً كان المال حراماً، وهو مِن أكل المال بالباطل، والله تعالى يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ (النساء: 29).
وفي بعض استفتاءات الإمام الخامنئيّ دام ظله عن قراءة الفنجان والكفّ وحكم المال المكتسب منها، قال: "إنْ لم يكن فيه إخبار جزميّ، فلا مانع منه في نفسه"، و"إذا كان إخباراً قطعيّاً عن المغيّبات فلا يجوز، ولا يجوز أخذ الأجرة على الحرام"(2).

3- حكم من يلجأ إليهم في ذلك:
إنّ الرجوع إليهم، إنْ كان اعتقاداً منهم بصحّة ما يخبرون به، أو ترتيب الأثر عليه بعيداً عن حجّة شرعيّة فلا يجوز ذلك، ويحرُم دفع المال لهم في هذه الحال؛ لأنّه على أقلّ تقدير يكون تشجيعاً لهم على فعل الحرام.
وفي بعض استفتاءات سماحة السيّد السيستاني في حكم إخبار بعض النساء عن بعض الأمور بهذه الطرق وحكم الرجوع إليهنّ: "لا عبرة بإخبارهنّ مطلقاً، ولا ينبغي الرجوع إليهنّ، بل يحرم ذلك أحياناً، كما لا يجوز أخذ الأجرة من قبلهنّ"(3).

4- حكم الاستخارة:
إنّ الاستخارة والتَفَأُّل بالقرآن لا يكشفان عن الغيب، ولذلك لا نعلم لمَ كانت الاستخارة جيّدة أو سيّئة، ولا ندري ما يوصل إليه التَفَأُّل، فقد تظهر المصلحة لاحقاً، وقد لا تظهر بالنسبة إلينا، فغاية الاستخارة أنّ نتيجتها في صالح المستخير، لكنّها لا تكشف له عن هذا الصالح ومتى يظهر، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى، فإنّ الاستخارة لها دليلها الشرعيّ المعتبَر مع غضّ النظر عن كيفيّتها، فعن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام: "من استخار الله عزّ وجلّ مرة واحدة وهو راض بما صنع الله له، خار الله له حتماً.."(4).

وقال المحقّق المازندراني (رحمه الله) تعقيباً على هذه الرواية ما لفظه: "استخارهُ طلب منه الخيرة، وخار الله له في الأمر جعل له فيه الخير، وهذا أمر ضروريّ؛ لأنّ الله تعالى يريد خير العباد كلّهم، فإذا توجّه إليه العبد العاجز عن معرفة صلاح أمره وفساده يهديه إلى الخير قطعاً"(5).

وقد ورد في بعض استفتاءات الإمام الخامنئيّ دام ظله في مورد الاستخارة والعمل بها: "إنّما تستخدم الخيرة لرفع الحيرة والتردّد في الإتيان بالأعمال المباحة، سواء كان التردّد في أصل العمل أو في كيفيّة الإتيان به. فما لا حيرة فيه من الأعمال الخيريّة، لا موضوع للخيرة فيه، وليست الخيرة لمعرفة مستقبل الشخص أو العمل"(6).

* التَفَأُّل بالقرآن
كذلك التَفَأُّل بالقرآن، فقد ورد جوازه عند كثير من الفقهاء، وإنْ حكم بعضهم بكراهته، كما ورد عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: "لا تَتَفَأَّل بالقرآن"(7). لكنّه على كل حال ليس الغرض منه كشف الغيب المستقبليّ وإنّما محاولة استشراف الخير في هذا الفعل أو ذاك، بعيداً عن الاعتقاد الجازم بما سيصير الأمر إليه. ومنهم من حمل النهي على التحريم وخصّه بذكر الأمور الغيبية وبيان الأشياء الخفيّة(8).

وختاماً، فإنّ الإنسان بغنى عن تضييع الوقت في متابعة الأمور التي لا تقدّم له في الحياة شيئاً يعتمد عليه كبعض ما تقدّم ذكره، ولو كان لغرض التسلية. وإنّنا مسؤولون عن صرف أوقاتنا في ما فيه خير لنا في دُنيانا وأُخرانا بعد أن كانت الدنيا مزرعة الآخرة، وما نزرعه هنا نحصده هناك، إنْ خيراً فخير وإنْ شراً فشرّ.


(*) أستاذ في جامعة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم العالمية، فرع لبنان.
1. بصائر الدرجات، محمد الصفّار، ص 133.
2. من أرشيف مكتب الإمام الخامنئي دام ظله.
3. عن موقع مكتب سماحته على الإنترنت.
4. المحاسن، البرقي، ج2، 598، ح 1.
5. شرح أصول الكافي، المازندراني، ج12، ص 329.
6. أجوبة الاستفتاءات، ج2، ص 117، سؤال رقم 349.
7. الكافي، الكليني، ج2، ص 629.
8. شرح أصول الكافي، (م.س)، ج11، ص 74.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع