تعتبر التجارب والخبرات إحدى سمات عصرنا اليوم، وهي بذاتها التجربة، في ساحة الجهاد، موضوع تأمل وتفكير وما زالت، لدى المفكرين المسلمين، باعتبار أن العمل هو الطريق الوحيد، لفهم القضايا الإلهية وتطبيقها.
* التجربة في اللغة
تقول في اللغة: جربت الشيء تجريباً إذا اختبرته مرة بعد أخرى وفي صحاح الجوهري المجرَّب: الذي قد جرَّبته الأمور وأحكمته ويقال للفضة إذا اختبرت بالنار مُحِنَتْ لتصفّى من الشوائب.
وعليه فالتجربة هي استمرارٌ للعمل في كل ميدان - الصناعات، والسياسات، والنظر والفكر، - فليس ثمة أمر من الأمور إلا هو موضوع للتجربة ومجال للاختبار ما دام هو في دائرة الإمكان. ويعتبر كل من استفاد من التجربة خبيراً ولكن ليس كل خبرة حق، وليس كل ثمارها مفلحة.
* الفطنة والحكمة
ما من شك أن التجربة لا تجعل عديم الذكاء ذكياً، إلاَّ أنها يمكن أن تشحذ الذهن وتوقده فتزيد من سرعة الملاحظة ودقتها لديه، وتبعث على الفطنة في معرفة مطاوي أحوال الأمور، وهي أيضاً تبعث على الحكمة في حسن تقدير المصلحة، وصحافة الرأي، وهي عكس السفاهة. ولذلك يشير أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: رأي الرجل على قدر تجربته.
* التجربة والعزم
يتفق جميع المفكرين والعاملين أن التجارب يمكن أن تعطي الإنسان فرصة واسعة للتعرف على خفايا وجوانب موضوع العمل، وعلى أساليبه وقيمته في مجال الدراسة. وبذلك تقل قوة العوائق، وعوامل الفشل واليأس، سيّما إذا كان الهدف المرتجى كبيراً، وكانت التجربة جديدة، وهو عين ما تحياه أمتنا الإسلامية اليوم، وهي تسعى لتأخذ بأسباب التقدم ومواجهة تيارات الانحراف السياسي والاجتماعي، تمهيداً لإقامة الحكومة الإلهية العالمية.
إن ما نكسبه من التجربة في المواقع الفكرية والسياسية لا يمكن الاستغناء عنه فهو الذي يمنحنا الثقة بالعمل ومستقبل العمل، مقلِّلاً بذلك من نسبة الأخطاء والسقطات، فيما يزيد من البصيرة والحكمة في النظر بعواقب الأمور.
ولا يصبح الإنسان ثابت الإرادة قوي العزيمة، من دون أن يخوض غمار التجارب، التي تكتنفها الأشواك والمرارات.
ومن البديهي أن ميادين التجربة تختلف، كما يختلف أصحاب التجربة أنفسهم، كما تختلف مقاييس الاختبار والنجاح كهذه التجربة أو تلك.
* كيف تستفيد من التجربة
تخضع المجتمعات البشرية دائماً إلى عوامل وراثية شديدة التأثير. بخلاف تيارات التغيير المعاكس فإنها لم تكن ذات تأثير بارز. وإذا حصلت فستكون ذات وتيرة بطيئة وضمن ظروف عوامل ذات تأثير ضعيف، وإلا فهي استثنائية للغاية.
أما اليوم وبفضل الأبحاث المكثفة وتشكيل البنى الفكرية والاجتماعية، وتشكيل عوامل التوجيه الوراثي والحضاري، فقد أصبحت هذه التيارات سريعة وعميقة في تأثيرها، خاصة بعد تقدم وسائل الإعلام والإدارة والكمبيوتر هذا التقدم الواسع. وهناك إمكانيات لا حدود لها قد رصدت لإيجاد تحولات تاريخية واجتماعية جذرية تشمل كافة المجتمعات والدول بلا استثناء، بهدف التكيّف مع روح العصر ومشاريع الاستكبار.
وعلى هذا فإن تجربة كل إنسان ستكون حصيلة للتعامل مع أساليب حياة في غالبها غير إسلامية وغير مستقيمة. فالتجربة هنا تجربة مشوهة ومضمحلة وفي غالب الأحيان تكون غنية من الناحية الشكلية ومنحرفة في مضمونها وروحها.
* أسلوبان للتجربة
الأسلوب الأول: وهو أسلوب تنعدم فيه الإرادة الموجهة لتحل محلها إرادة التكيف والانسجام. وذلك حينما تتملكنا رغبة في التفتيش عن كل منافذ الهروب من الالتزام وهذا ما يحصل عند البعض ممن تفتنهم الحضارة المادية فيندفعون وراء كل محلّل من الطعام والشراب والزينة، وأساليب التفكير، وحتى أساليب الحياة الاجتماعية والعمل السياسي، وصولاً إلى أن تتغيّر لدى البعض اللغة والمصطلحات ومقاييس التقدم والقيم.
إننا لا تستطيع أن نفصل هذه الرغبة عن الدوافع الخطرة وراء الدنيا وسلطان الجاه والمال. وقد يحصل ذلك في ظل الجهل بالإسلام فتكون التجربة بهذه الحال ليست إلا الكارثة.
هذا أولاً: أما ثانياً: فإن ما تقدمه التجربة في ظل انتشار الانسياق والتكيف - حتى مع فرض وجود أجواء اجتماعية غير فاسدة - في بعض الأماكن والأحياء - لن يكون غنياً، ومثل هذه التجربة هي تجربة ضعيفة وغير أصلية.
ثالثاً: هناك بعض التجارب الإسلامية تحاول أن تقترب في انطلاقتها وتعاملها - من حيث تريد أو لا تريد - من الرؤية البراغماتية، التي تعتبر أن المتطلبات العملية هي التي تعطي للأفكار وأساليب العمل "المخالفة" مبرر الطرح في ميدان التداول، على أساس أن هناك مجالات كبيرة لتلاقي التجارب، سواء مع الماركسية والعلمانية أو الإسلامية. إذ تقتضيها ضرورات العمل. وعلى أساس أن الهدى لا ينشر إلا من حيث انتشر الضلال. إن مثل هذه التجربة يمكن أن تضيع الخبرة وتشتت الرؤية، وتقتل الأصالة، حتى لو كانت تعتذر لذلك. بمبدأ التزاحم والانسداد.
الأسلوب الثاني: وهو أسلوب تقوى فيه الإرادة الموجهة وتنعدم فيه إمكانية الانحراف والتكييف، فالتجربة هنا لبلورة رؤية، لا لإيجاد وتكوين رؤية. فما لم تكن الرؤية سليمة ومتكاملة، وعاملوها على مستوى من التقوى والاستقامة فإن أكب المسائل وأقدسها ستفصل على قياس التجربة. وبدل أن تمد التجربة رؤيتنا الإسلامية بالنور، تأخذ التجربة حريتها مستفيدة من النصوص ملاذاً وغطاءً.
ثم علينا أن نتحرك في التجربة على أساس أن نراقب ونتابع ونبحث ونتعلم لا أن نتحرك مع التجربة بسذاجة ليس لنا فيها لا حول ولا فعل. وعلينا أن نتغنى بالتجربة. فالتجربة غالباً ما تفقدنا اتزاننا وأصالتنا وصلابتنا. إذ ليست التجربة نزهة بين الورود. إنما هي نزول في معترك المعمعة. ينتصر فيها الدارع، ويسقط فيها الحاسر.
نعم إذا كانت التجربة لله وفي الله، فإنها تكسبنا الهداية والبصيرة والنور كما يقول الحديث الشريف: "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله". فالنظر بنور الله هو العلم المستأنف الذي يشير إليه أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: "وفي التجارب علمٌ مستأنف".
* ثمار التجربة
قد يتصور البعض أن التجربة يمكن أن نكتشف بها نظرية من النظريات الجديدة أو نصحح بها فرضية من الفرضيات، أو تكون التجربة سبيلاً لإدراك الحقائق.
إن هذا الطرح وإن كان يحاول تأكيد أهمية التجربة حيث لا بد منها مقابل السكون والانزواء، لا جدال في هذا إلا أنه يحاول أيضاً أن يبيّن ميكانيكية التجربة - ولو بصورة عامة - على أنها فعل وردة فعل إذاً كلما أعطينا في التجربة فإن التجربة ستعطينا وهذا يعني أن التجربة الناضجة هي التي تجعلنا نضاعف الانتاجية كماً ونوعاً. ولست أدري إذا كان يمكن إثبات ذلك في ساحة العمل الإسلامي، ونتساءل، هل يحترم الإسلام العمل والتجربة الإسلاميين بصورة مطلقة؟ أم أنه يأخذ في ذلك قيوداً دقيقة ومحددة حتى يمكن اعتبار العمل والتجربة محترمين؟
لِنَر:
يكثر القرآن الكريم من الحديث عن العمل والجهاد والعاملين والمجاهدين وعن أهمية ذلك وثماره وآثاره. ويمجد الأمة العادلة والمجاهدة ويضرب في ذلك الأمثال من حياة الأنبياء والأولياء، ولكن لا يعتبر أن ذلك من شأنه أن يعطي شيئاً، بل يقول أن العمل يمكن أن يكون هباءً منثوراً وإن العاملين يمكن أن يكونوا قوماً بوراً، وأن الأعمال ليس لها قبول إلا إذا كانت من المتقين ﴿إنما يتقبل الله من المتقين﴾ ويقول تعالى: ﴿والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا﴾ وهذا القول ظاهر صريح، في أن الجهاد في الله هو الذي يكشف سبل الهداية ثم أن الله تبارك وتعالى هو الذي يعطي هذه المِنَّة. ومن لا يقر بالعبادة لله والاستعانة به لن يتلمس إلا ما يتوهمه هداية. القيام لله كما يعتبره الإمام العارف الخميني عليه الرحمة مقدمة العزم ﴿قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله﴾.
أما أمير المؤمنين فيقول عن الجهاد أنه "باب من أبواب الجنة فتحه الله لخاصة أوليائه، وهو درع الله الحصينة وجنته الوثيقة".
ولكن هناك الكثير ممن دخلوا ساحة العمل الفكري والسياسي لم تفتح لهم التجربة طريقاً لله بل ربما كانت مفتوحة من البداية فأوصدت.
قال تعالى: ﴿قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعها﴾ (الكهف 103/104).
إذاً ربما كانت التجربة مبعثاً على المضي في المتاهة، فيما لو سارت التجربة بعيداً عن تلك القيود والشروط المحددة.
* الغيب والتجربة
من دون الدخول في مقدمة، فالغيب يلف الوجود والوجود كله لا وجود له، ولا حركة ولا استمرار، إلا بالغيب، وإن كل تسديد إنما هو آت من عالم الغيب.
يقول القرآن الكريم: ﴿آلم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون﴾ (البقرة 1/13).
إن هذه الآية الكريمة تتحدث بوضوح عن موقع الغيب في الهداية من خلال التجربة، إذ يذكر القرآن الكريم هنا الأتقياء، فيشترط أن يحصلوا مسائل ثلاث حتى يصبحوا فعلاً كذلك، وعندها يمكنهم الاهتداء، وهنا تبدو الهداية مركبة من الإيمان بالغيب، وإقامة الصلاة، والأنفاق.
فالإيمان بالغيب والاعتماد عليه، شرط للبقاء مع الله، باعتبار أن الغيب لا ينقطع، وهذا ما يشير إليه القرآن الكريم قوله: ﴿وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى﴾ (الأنفال/117) ﴿السماوات مطويات بيمينه﴾ (الزمر/67).
إن الأعمال التي لا تكون لله خائبة ولا تنتج إلا سراب الهداية ﴿إن تنصروا الله ينصركم﴾. (محمد/7)
وكما نلاحظ فإن الأعمال التي لا تكون لله تكون خائبة، وهكذا هي التجربة، لا بد أن تبدأ بالإيمان الغيب، وتبقى معه، لتكون ثمرتها إلهية. وما دام القيام ليس لله، والإيمان بالغيب ليس موجوداً فسوف تكون التجربة لهاث خلف سراب يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً. وقد لا يلتفت أصحاب التجارب البعيدة عن الغيب، إلى خوائها، إلا بعد فوات الأوان.
أما إقامة الصلاة، فالحقيقة أن القيام التام لله إنما يكون في العبودية له، وفي الصلاة تتجلى هذه العبودية، وهذا الخضوع، فالإيمان بالغيب أولاً، والعبودية ثانياً، ومقارنة.
الإنفاق من رزق الله. هو إنفاق من ظهر الغيب، يأتي نتيجة للإيمان بالغيب وإقامة الصلاة باعتبارها في طليعة الواجبات العبادية، وهو أي هذا الرزق خاص من عنده تعالى، ثم إن الإيمان بالغيب يترتب عليه السعي إلى الإنفاق من أنواع الرزق المادي والمعنوي، بلا أدنى خوف من الإنفاق.
وأخيراً نكتفي بمثال واحد على ارتباط التجربة بالغيب، والتسديد الغيبي، يقول أمير المؤمنين عليه السلام: ولقد كان الرجل منا والآخر من عدونا.
يتصاولان، يختلسان أنفسهما أيهما يسقي صاحبهما كأس المنون، فمرة لنا من عدونا، ومرة لعدونا منا، فلما رأى الله صدقنا، أنزل بعدونا الكبت، وأنزل علينا النصر.
فالتجربة الإلهية هي التي تنطلق من الإيمان بالغيب وتستمر معه، وإلا فالتجربة غير إلهية بالمعنى الصحيح والكامل، أو قل غير إلهية وكفى.