لقد دُعينا إلى ضيافة الله. إنّ هذه الضيافة (ضيافة شهر
رمضان) التي دُعيتم إليها -أيّها المؤمنون- هي ضيافة الله في عالم المادة وهي التي
تجنّبنا جميع الشهوات الدنيويّة. هذه هي المرتبة الماديّة لضيافة الله. فعلى كافّة
المدعوين أن يعلموا بأنّ ضيافة الله في هذه الدنيا عبارة عن التغاضي عن الشهوات،
وترك ما ترغب فيه روح الإنسان الطبيعيّة، ووجوب الإقلاع عن ذلك كلّه.
* مراتب الضيافة الإلهيّة
إنّ ضيافة الله ما هي إلا ظلّ للضيافات المتحقّقة في عالم الوجود، وكلّ ما في الأمر
أنّها تظهر في عالم المادة بشكل ترك الشهوات الطبيعيّة والجسمانيّة، وفي عالم المثل
بشكل ترك الشهوات الخياليّة، وفي عالم بعد المُثل بشكل ترك الشهوات العقلانيّة
والروحانيّة.
تتحقّق الشهوة فيّ كل مكان بشكل معيّن؛ ففي هذا العالم تتحقّق بالشكل الذي تعلمون،
وفي العالم المثاليّ تكون شهوات الإنسان أكبر بكثير من شهواته في عالم الطبيعة،
وكبْح جماحها أكثر مشقّة وعُسراً أيضاً. فضيافة الله هناك هي أن يدع الإنسان
الشهوات، كالشهوات النفسيّة التي ينهمك بها عالمنا.
أمّا الشهوات العقلانيّة التي هي أرفع درجة من هذه الشهوات، فيجب التخلّي عنها هناك
أيضاً. والشيطان موجود في جميع هذه المراتب، من أجل صدّكم عن التزوّد من هذه
الضيافة؛ يصدّكم في عالم الطبيعة وفي عالم الخيال والمثل وفي عالم العقل أيضاً.
والتخلّي عن الآمال العقلانيّة أصعب من التخلّي عن غيرها. الآمال النفسانيّة الأقلّ
درجة من الآمال العقلانيّة أضرمت النار في هذا العالم.
* الشهوات النفسانيّة أقوى
إنَّ جميع الحروب والنزاعات في هذا العالم، سواء ما وقع منها في نفس العائلة أم في
العالم بأسره، والذي يمثّل عائلة أيضاً، تنشأ من طغيان النفس وتمرّدها.
إنّ ضيافة الله هناك التي دعينا إليها هي أن نتخلّى عن شهواتنا النفسيّة، وهذا أمر
عسير جداً.
لا تطبّق ضيافة الله إلّا بالتخلّي عن ذلك كله؛ لأنّ الضيافة تعني حضور المدعوّ لدى
صاحب الدعوة، وهو الله سبحانه وتعالى، ونحن على أثر هذه الدعوة نَرِد عليه جلّ وعلا.
فهل تخلّينا عن شهواتنا الجسمانيّة فضلًا عن الشهوات الخياليّة والنفسيّة
والعقلانية في هذا الشهر الشريف عندما وردنا هذه الضيافة؟
* هل لبّينا دعوة الله؟
هذا يرتبط بالشخص نفسه، فعليه أن يتروّى وينظر إلى ما فعل. هل لبّينا دعوة الله
تعالى لمّا دعانا فحضرنا مجلسه؟ وهل استجبنا لدعوته كي نستفيد أم لا؟ كلّ هذه مراتب
لتلك الضيافة، فبالإضافة إلى هذه الضيافة هناك ضيافة العارفين، فقد دعا الله الجميع
إلى هذه الضيافة، فيرد العارفون والكُمّل من الأولياء أيضاً، ويستطيعون اجتياز
الاختبار الذي نادراً ما يجتازه أحد. فوق كلّ هذه المراتب مرتبة سامية تخلو من
الضيافة؛ فلا ضيافة ولا مضيف ولا ضيف.
*استغفار المعصوم
من ضمن ما يحمله لنا شهر رمضان قضيّة الأدعية المأثورة فيه. عندما ينظر الانسان إلى
أدعية الأئمة عليهم السلام في شهر رمضان، وفي غيره يُصاب باليأس والقنوط لولا
النهي عن اليأس من رحمة الله تعالى.
هذا الإمام السجاد عليه السلام بعظَمته يناجي الله -كما تلاحظون- ويخشى من المعاصي.
الموضوع أكبر مما نتصوّر بكثير، وأعظم من أن يدركه فكرنا أو عقل العقلاء أو عرفان
العرفاء. ولا يدرك هذه القضية سوى أولياء الله.
إنّهم يعلّموننا في هذه الأدعية، وليس معنى ذلك أنّ أدعيتهم جاءت من أجل تعليمنا
فقط، بل كانت الأدعية لهم أنفسهم، فهم يخشون الله، ويقضون الليل بالبكاء والنحيب من
أجل ذنوبهم.
كانوا جميعاً، بدءاً بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وانتهاءً بصاحب الزمان عجل
الله تعالى فرجه الشريف، يخشون الذنوب، بيد أنّ ذنوبهم ليست كذنوبي وذنوبكم، أولئك
وصلوا إلى مرحلة من العظمة والإدراك، فالاهتمام بالكثرة يعدّ من الكبائر لديهم.
* أمرهم عظيم
قال الإمام السجاد عليه السلام ذات ليلة: "اللهمُّ ارزْقنا التجافي عن دارِ الغرور،
والإنابة إلى دارِ السرورِ، والاستعدادَ للموتِ قبلَ حلولِ الفَوتِ"(1).
الأمر عظيم. فعندما ينظر هؤلاء إلى أنفسهم ويرونها لا تعدل شيئاً أمام عظمة الله جلّ
وعلا -وهذا هو واقع الأمر- يجهشون بالبكاء ويتضرّعون إليه تعالى، لذا يُنسب إلى
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "وإنّه ليُرانُ على قَلبي، وإنّي
لأستغفر اللهَ في اليوم والليلة سبعينَ مرّةً"(2).
كان أولئك في ضيافة الله، بل فوق تلك الضيافة، ومع حضورهم أمام الله تعالى يدعون
الناس إلى التضرّع والدعاء، ويحصل لهم من ذلك استياء وتبرّم. إنّ الالتفات إلى
المظاهر الإلهيّة بنظرهم -مع كونها إلهية- تعدّ من الكبائر، ومن الذنوب التي لا
تُغتفر؛ لمخالفتها لذلك الغيب الذي يطمحون إليه، وهو "كمال الانقطاع إليه"؛ فهذا
يمثّل دار غرور لدى الإمام السجاد عليه السلام. ملاحظة الملكوت دار غرور بالنسبة
إليهم، وكذلك ملاحظة ما فوق الملكوت. هؤلاء يرومون الانقطاع إلى الحقّ تعالى بدون
أن تكون هناك ضيافة، وهذا يختصّ بكُمّل أوليائه تعالى.
* الناس نيام
نسأل الله أن يرزقنا عدم إنكار هذه المقامات، فإنّ إنكارها من جملة ما يقف في وجه
تقدّم الإنسانيّة، وهي حصر كلّ شيء في دائرة فهمنا فقط. الخطوة الأولى عبارة عن
اليقظة، فيجب على الانسان أن يصحو؛ لأنّ الناس نيام، وعندما يحلّ الموت يستيقظون،
ولكن أين هو الموت؟
المهم أن يلتفت الإنسان إلى الأمور المحيطة به، ويتمعّن في جميع أقوال أهل المعرفة؛
لأنّها أقوال علميّة، وقد وردت في الأدعية؛ فإنْ أنكرها فقد أنكر قائليها، وأنكر
أقوال الأئمّة عليهم السلام من غير قصده. وهذا الإنكار يقف في وجه رقيّ الإنسان.
وهذه المآرب والأهواء النفسانيّة منشأ لجميع المفاسد في العالم؛ هذه المفاسد التي
تجرّ الدنيا نحو المحرقة.
أنا أدعو الله أن يوقظنا، ويهلك أعداء الإسلام، ويعرّفنا بواجباتنا في هذا
العالم، وواجباتنا في العوالم الأخرى، ويهبنا مقداراً من هذه الضيافة.
(*) من خطاب للإمام الخميني قدس سره بتاريخ 1 شوال 1407ه، بمناسبة عيد الفطر
السعيد.
(1) إقبال الأعمال، ابن طاووس، ج1، ص402.
(2) بحار الأنوار، المجلسي، ج17، ص44.