السيد حسين أمين السيد
لطالما كانت الصلاة وصيّة الأنبياء والأولياء ومحطّ عناية
أهل الإيمان؛ وذلك لأنّها الطريق الموصل إلى الله تعالى قطعاً، وأنّ كلّ الأعمال
التي يقدّمها المؤمن ترفعها الصلاة وإلّا بقي العمل سراباً.
* هدف الصلاة والغاية
ولكلّ عمل ميزان يوزن به، حتّى يميّز الإنسان به تحقّق غايته من الفعل والنتائج
المطلوبة.
والصلاة باعتبارها خير العمل وأفضله، وباعتبارها عمود الدين وأنّها شرط لقبول كلّ
الأعمال، "إنْ قبلت قبل ما سواها..." فالإنسان يحتاج إلى أن يزن صلاته
ويقيّمها ليضمن أنّه يؤدّيها كما هو مطلوب لتوصله إلى الهدف والغاية، فما هو هذا
الميزان في الصلاة؟
* ميزان الصلاة والقبول
قال الله تعالى في محكم كتابه العزيز:
﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ
الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ﴾ (العنكبوت: 45).
وعندما سئل المعصوم عليه السلام كيف أعرف أن صلاتي مقبولة أم لا؟ أجاب: انظر إلى
صلاتك فإنْ كانت تنهاك عن الفحشاء والمنكر فهي مقبولة وإلّا فلا. من هنا نعلم أنّ
ميزان الصلاة هو سلوك الإنسان اليوميّ، فإنْ كان سلوكه كما أمر الله سبحانه وتعالى
فهذا معناه أنّ الصلاة حقّقت الهدف ومقبولة عند الله تعالى، وإنْ كان سلوكه لا يمتّ
إلى الإيمان بصلة فالصلاة وإن كان أداؤها قد حصل إلّا أنّ إقامتها لم تتحقق.
فما هي الأمور التي يستعان بها لتحقيق الصلاة بشكلها المطلوب؟
* الصلاة المطلوبة
1- الوضوء لله تعالى: يعتبر الوضوء من العبادات التي تشترط فيها النيّة.
ويشترط في النيّة الإخلاص وحضور القلب. والوضوء ليس غَسل أعضاء البدن، كما فَهم
البعض، بل هو عبادة وله هدفه في إيجاد اللياقة المطلوبة للإنسان والطهارة ليصبح
مؤهّلاً للدخول إلى حرم الصلاة وإحرامها. وهذا ما نراه في حالة الإمام علي بن
الحسين عليه السلام عند وضوئه؛ حيث ورد أنّه عليه السلام كان يصفرّ لونه فيسأل عن
ذلك فيجيب أوَتعلمون بين يديْ مَن سأقف(1). وقد ذُكر قول لأحد الأساتذة من العلماء
الأجلاء: "من كان حاضر القلب عند الوضوء فإنّه والله سيكون حاضر القلب عند الصلاة"
وأقسم على ذلك، فكيف تتوقّع من قلبٍ لاهٍ لاعب عند الوضوء أن يحضُر عند الصلاة.
2- القيام لله تعالى: هناك العديد من المقدّمات التي يجب أن يُعتنى بها لضمان
صحّة الدخول في الصلاة. وقد ورد في الروايات بعض المقدّمات التي تعين الإنسان على
مواجهة إبليس، منها: أن يقول الإنسان قبل تكبيرة الإحرام للصلاة "الله أكبر"، عدة
تكبيرات تهيّئ النفس والروح لقول تكبيرة الإحرام بكامل الوعي والحضور، فيبدأ
بتكبيرات الأذان [ستّ مرات] ثم تكبيرات الإقامة [أربع مرات] ثم ستّ تكبيرات
كاستفتاح لتكبيرة الإحرام، ثم قبل تكبيرة الإحرام ورد أن يقول:
﴿وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ
هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ﴾ (المؤمنون: 97 - 98)، فإذا كبَّرت ونجحت في معركتك مع
الشياطين أعوان الشيطان الأكبر وهزمتهم فاعلم أن بعد تكبيرة الإحرام ورد أن تقول
قبل البدء بالقراءة: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم"، فالذي يحضر لمواجهتك هو
الشيطان الأكبر بذاته لتعلم عِظم المعركة، ومع ذلك فإنّ النصر حليفك؛ لأنّ المدد
الإلهيّ والعون معك، فاثبت وتِدْ قدمك في أرض الإخلاص لتحقّق نصرك على عدوّ الله
تعالى.
3- الصلاة لله تعالى: يجب أن تكون نيّة الصلاة خالصة لله تعالى، لا يشوبها شيء.
وللوصول إلى هذه الحالة يحتاج الإنسان إلى جهد وتهذيب للنفس وترويضٍ لها شيئاً
فشيئاً حتّى تشعر بالنيّة الخالصة، وحتّى تعلم النفس أنها تُقدم على أمر عظيم.
فالنفس التي اعتادت الغفلة والراحة، لن تقبل تغيير نمط سلوكها ولذا سترفض التغيير،
فلا بدّ عند ذلك من اعتماد الجدّ والاجتهاد في مواجهتها. وما يعين المرء في هذه
المعركة هو المدد والعون الإلهيان
﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا
لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (العنكبوت: 69).
4- ذكر الله تعالى: بعد أن عرفنا الحال المطلوب في الصلاة، يبقى الخطر الأكبر
خارج الصلاة، ونحن في غمرة الانشغال في همّ الدنيا والكدّ والتعب في طلبها. هنا
يبرز الذكر على أنّه العون والمدد والذي من خلاله يحافظ الإنسان على رابط ممتدّ من
الصلاة إلى الصلاة، من خلاله يتذكّر الإنسان ربّه على الدوام. والذكر علاقة متبادلة
مع الله تعالى
﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ (البقرة: 152).
* الصلاة راحة المؤمن
يجب أن يحذر الإنسان من أن تتحوّل صلاته من عبادة إلى عادة، حيث إنّ أغلبنا تحوّلت
الصلاة عنده إلى عادة اعتادها. في حين أنّ الصلاة لقاء مع المعشوق وخطاب مع
المحبوب، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا أحببتُ أن يخاطبني
الله قرأت القرآن وإذا أحببتُ أن أخاطبَ الله صلّيت". فالصلاة راحة للمؤمن
وانعتاق له من الدنيا ومتعلّقاتها، حيث ورد في الحديث الشريف أنّه كلّما دنا وقت
الصلاة كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يتلفّت يميناً وشمالاً ويقول: "أرحنا
يا بلال"(2).
وذكر أهل الاختصاص أنّ النفس تكتسب عادة كلّ أربعين يوماً، بمعنى لو ثابر الإنسان
على فعلٍ ما، في هذه المدّة الزمنيّة، تحوّل الفعل إلى عادة.
* كيف نعرف أن هذه الصلاة قبلت أم لا؟
وحتّى نعرف ذلك لا بدّ من مراقبة العمل واكتشاف الآثار، وأن ينظر الإنسان إلى سلوكه
في الحياة ومدى انسجامه مع الأوامر والنواهي الإلهيّة، ومدى انتهائه عن الفحشاء
والمنكر، فمن خلال ذلك يستطيع أن يرفع مستوى الأمل بقبول صلاته، ويعلو مستوى الرجاء
في قلبه، ويخاف ويحذر من الخسارة وضياع الجهد.
* مقام المصلّين
وهناك عدة مؤشّرات وآثار تظهر على سلوك الإنسان عند تحصيله لمقام المصلّي. وسنذكر
للقارئ العزيز جملة أمور عمليّة يعرف من خلالها أثر الصلاة التي يصلّيها وإلى أين
أوصلته، منها:
1- الشعور بالحضور الدائم:
من بركات الصلاة التي يكتسبها الإنسان أن يشعر بالحضور الإلهيّ على الدوام، فيتحوّل
القلب من القلب الغافل اللاهي إلى القلب الذاكر، وعند ذلك يعتبر القلب حيّاً
بالفعل، ويصبح القلب في حالة إحرام دائم. فنحن نحرّم على أنفسنا أشياء بعد تكبيرة
الإحرام في الصلاة لنصبح في حالة إحرام، فنخرج من الغفلة إلى الحضور الدائم، كما
قال العبد الصالح الإمام الخمينيّ قدس سره: "العالم محضر الله فلا تعصوا الله في
محضره".
2- الشعور بالنفور من الحرام والمنكر:
من آثار الصلاة أنّ من ذاق حلاوتها وجد كلّ ما يتنافى معها مرّاً وعلقماً. فالصلاة
ترخي بطهرها على صاحبها وتنوّر بصيرته فيرى الحق حقاً والباطل باطلاً ولا ينخدع
بالمظهر البرّاق للحرام، بل يشعر بالاشمئزاز والغثيان عند رؤيته، فهل بدأنا نشعر
بذلك؟ إنْ كان الجواب بالنفي فمعنى ذلك أنّ صلاتنا لم تأخذ مكانها الصحيح، ونحتاج
إلى جهد أكبر وعزم وإرادة أشدّ.
3- الشعور بالحبّ لله تعالى ولخلقه:
قد يكون للإنسان عدّة أهداف تدفعه للقيام بالعمل. وعند الصلاة نجد الإنسان يعزم على
صنوف كثيرة من الأهداف فمنهم من يقيم الصلاة قربة لله تعالى، ومنهم طمعاً بجنته
سبحانه، ومنهم خوفاً من ناره عزّ وجلّ، ومنهم رياءً وسمعة... إلخ، إلّا أنّ الذي
يؤدّي الصلاة حبّاً للقاء المحبوب وعشقاً لمخاطبته والتفرغ إليه، يُظهر أثر هذه
النية على تفاصيل حياته اليومية، حيث يرى جميع الخلق فعل المحبوب وصنعة المعشوق،
فيحبّه ويحنو عليه ويشفق على ضعيفه ويحنو على محتاجه، فلا يرى شيئاً إلّا ويرى الله
فيه... فيصبح مفيضاً بالحبّ، يحبّ كلّ شيء ويحبّه كلّ شيء، فلا يمكن لمحبّ أن يؤذي
أحداً. لذا نرى العدائيّة العالية بين البشر، وبينهم وبين الحيوان، وعدائية الحيوان
للبشر، فلو حمل الخَلق الحُبَّ لاستقامت الحياة، وهذا ما ورد في بعض الروايات التي
تتحدّث عن خصائص دولة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف؛ حيث يتصادق الذئب
والحمل، وتخرج المرأة من المشرق إلى المغرب ليلاً فلا يتعرّض لها أحد.
4- مراعاة حق الله:
من الواضح أن العمل المقرب إلى الله هو العمل الذي أمر به سبحانه، من هنا كان لا بد
من مراعاة أحكام الله تعالى وأوامره ونواهيه، فيؤدّي العمل كما يحبّه الله تعالى
ويرضاه أوافَقَ ذلك رغبتنا أم لا، فإن الذي يؤدي العمل على خلاف الأمر لا يناله إلا
التعب كالسائر على غير هدى لا يزيده بُعد المسير إلّا ضلالاً وضياعاً.
5- مراعاة خلق الله:
كلنا من أهل الظلم، نظلم أنفسنا بإيقاعها في الحرام وتعريضها لغضب الله سبحانه،
نظلم عيالنا الزوجة والأولاد بسوء الخلق في بيوتنا. فبدلاً من البيت المنوّر بالحب
والرحمة يصبح مظلماً بالشحناء والبغضاء.
نظلم الأرحام بقطيعتهم، نظلم الجار ويستمر ظلمنا فنظلم ونظلم...
وفي ختام الكلام نسأل أنفسنا: "يا ترى هل نُعتبر من المصلين أم ممّن يصدق عليه قوله
تعالى:
﴿فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ﴾ (الماعون: 4)"؟. فلنشدد حيازيمنا ولنعقد العزم
ولنصلح ما فسد من سيرتنا وسريرتنا ولنعلم أن الله تعالى ناصرنا ومؤيدنا وأن الله
تعالى يحبّ المستغفرين التائبين، فلنكن منهم، ولنتخذ وسيلة إلى الله تعالى كما
أمرنا سبحانه بقوله تعالى:
﴿وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ﴾ (المائدة: 35)، محمد وآل محمد، ولنحرص على الصلاة في أول
وقتها كي تُرفع مع صلاة صاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف.
1- بحار الأنوار، المجلسي، ج80، ص347.
2- عدّة الداعي، ص139.