الشيخ د. محمد حجازي
على الرغم من تطوّر الحياة الإنسانيّة، وتبدّل معايير العيش المتأثّرة بالثورة العلميّة التي شهدتها المجتمعات البشريّة في العصر الحديث، لم يستطع العقل الإنسانيّ، وبكلّ ما يملك من حجّة علميّة ودينيّة دافعة، الخروجَ بشكل كامل من الموروثات الشعبيّة، والترسّبات التقليديّة، والعادات والتقاليد التي لا تتوافق مع الشرع الإلهيّ أو الحجّة العقليّة؛ بل بقي الفكر الجاهليّ الموسوم بـ"الخرافة" و"البسابس"(1) و"الأساطير" متغلغلاً في مناهج التفكير عند الناس إلى درجة التمازج والتماهي بين العقل الدِّينيّ والمنطقيّ من جهة وبين الفعل الجاهلي الذي لا أساس له من جهة أُخرى.
* إخراج العقل من ظلمات الوهم
ولذلك نلاحظ أنَّ الدعوات التزكويّة والإصلاحيّة للأنبياء والرُّسل عليهم السلام انصبّت على هذا الجانب بشكل أساس، لإخراج العقل البشريّ من ظلمات الوهم والتخيّلات الباطلة التي أنتجت -عبر التاريخ- عدائيّة متحكّمة تجاه المنطق العلمي والسماويّ، إلى درجة أنَّ بعض الشعوب لا زالت متمسكة بعادات غريبة لا أصل لها، كحالة "التحرّز بالخَرَز الأزرق"(2) أو بعض أعضاء الحيوانات من كلّ أمر مخيف ومجهول. فبدل أن يرجع الناس إلى الركن الوثيق "القرآن الكريم" ويتسلّحوا بآياته، فإنَّهم -اليوم- يجمعون بين الآيات القرآنية وبين هذه الأشكال وكأنها طريقة لشرعنتها وأسلمتها، وهي أصلاً باطلة ولا أساس لها من الصحة.
وهنا مكمن الخطورة، فالمغالطات الفكريّة والخرافات لم تنحصر في مجال من مجالات الحياة، إنّما انسحبت على كافّة الميادين والحالات التي يرتبط بها الإنسان، فنجد الخرافة في مجال الطب أو في مجال النظام الغذائيّ أو في المجال الاجتماعيّ... وفي شتى الحقول نلاحظ المشكلة نفسها وهي عدم القدرة على الاستفادة من الدّين والخطاب العقليّ؛ ما أدّى إلى تحوّل العادات المدنيّة إلى قانون على أساس وهميّ، وتحوّل الخروج منها إلى معركة فكريّة، أفرزت نمطيّات وأصنافاً من الناس غير قادرة على التعايش.
* موروثات اجتماعيّة
من جملة هذه العادات الموروثة التي لا تتوافق مع الخطاب الإسلاميّ، أو حتّى مع المنطق العقليّ السليم الموروثات الاجتماعيّة التي تسيطر على الكثير من تصرّفاتنا اليوميّة والتي تساهم في إظهار صورة غير حقيقيّة عن واقع الإسلام وأحكامه الصائبة.
ولأجل توضيح الفكرة، نضرب الأمثلة الاجتماعية الآتية:
أولاً: التهاني والتعازي
1- التهاني: من العادات الرائجة عند بعض الشعوب في مناسبة الزِفاف، إخضاع العريس أو العروس لبعض الاختبارات يوم الزِفاف مثل: حمل الأوزان الثقيلة، إلصاق العجينة بباب المنزل، أو مطالبة أهل العروس "بهدية الزواج"!!
ناهيك عن كيفيّة التهاني، فقد كان رائجاً في العصر الجاهليّ التهنئة بكلمة: "بالرفاء والبنين". والرفاء تعني الوئام والالتحام، والبنين تعني الصبية دون البنات؛ وذلك لكراهتهم المعروفة للإناث.. ومع الأسف لا زال الناس يباركون لبعضهم بعضاً بهذه الطريقة، ويقولون: "بالرفاء والبنين"، على الرغم من أنَّ الإسلام نهى عن هذه الطريقة الاجتماعية الخاطئة، وأمر باستبدال التهاني بكلمة: "على الخير والبركة"؛ وفقاً لرواية مرويّة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما زوّج فاطمة عليها السلام "قالوا: بالرفاء والبنين، فقال: لا؛ بل على الخير والبركة"(3).
2- التعازي: إنَّ ثمة عادات عديدة متحكّمة بعادات العزاء إلى درجة المبالغات والنفاق -أحياناً- على حساب الميّت نفسه. ولأنَّ أهل الجاهلية كانوا يعظّمون المصاب ويفعلون أفعالاً لا تمتّ إلى الدّيانات الإلهيّة بصِلة، إلى درجة الجزع المفرط، فقد كانوا يطيلون أيام العزاء، ويدفنون مع الميّت أشياءه الثمينة، ويعوّذونه بِعِوَذ الشِرك والمعتقدات الفاسدة، إلى أن جاءت أحكام الدِّين الإسلامي الحنيف وأرشدت الناس إلى طُرُق العزاء:
أ- أيام العزاء ثلاثة فقط، فبدل أنْ تكون مناسبات العزاء "عشرين يوماً" أو أسبوعاً مع ما فيها من الجزع والمبالغات، فقد حدّدت مدّة العزاء بثلاثة أيام؛ وذلك استناداً إلى نصوص معتبرة عن الأئمة المعصومين عليهم السلام، حيث ورد في حديث للإمام الباقر عليه السلام: "يُصنع للميّت مأتم ثلاثة أيام من يوم مات"(4). وعليه، ليس من ديننا وشرعنا إقامة سُنّة الأسابيع، التي تعود بأصلها إلى الفرقة الإسماعيليّة التي كانت تعظّم كل الأرقام السبعيّة.
ب- خرافة المباخر أمام الجنائز والرقص بالنعش، هذا، ناهيك عن تفاصيل كثيرة ترتبط بعادات وتقاليد تجهيز الميّت وتشييعه ودفنه، فنلاحظ أنَّ بعض الناس يحملون "المباخر" أمام الجنائز -وهذا منهيّ عنه بحسب المذهب الجعفريّ- أو يرقصون بنعش الميّت وكأنه عرسٌ ولا قيمة لحرمته. وهناك بعض التشريعات الحديثة التي شرّعت حرق بدن الميّت في أفران مختصّة للأموات، ويأخذون قارورة رماد من أثره لتكون ذكرى عند أهله!
ج- مشكلة إطلاق الرصاص كما يعتقد بعض الناس أنّها من عاداتنا اليوم، رغم أنه محرّم شرعاً لما فيه من أذيّة للأحياء والأموات معاً!
فهل بهذه الطرق والوسائل نكرم أمواتنا؟! في الوقت الذي اعتبر الدِّين الإسلاميّ أنَّ هذه المناسبة هي للسكينة والاعتبار والاستعداد للالتحاق بركب الراحلين، وأنَّ "إكرام الميّت دفنه". فمن أين أتت هذه الإضافات؟
ثانياً: الطب الشعبيّ والشعوذة!
أغرب المظاهر التي لا زلنا نعاني منها هو لجوء بعض الناس إلى الخرافات في معالجــاتهم البدنيّـــة والنفسيّة، فبــدل أن يستفيدوا من النتاجات العلميّة والطبيّة الحديثة، يُفضِّل الكثير منهم الذهاب إلى بعض الجهلة الذين يدّعون قدرات خارقة وكرامات باهرة، وهم في القدرة على مداواة أنفسهم أعجز وأبعد عن الحقيقة، فيكذب عليهم بوصفات عشبيّة وعلاجات طبيّة قديمة، ما أنزل الله بها من سلطان. أو يقرّر أحدهم أن يذهب إلى خبير في الشعوذة والضحك على الناس ليخدعه ببعض الترّهات ويكشف له معالم المستقبل، وقد يأمره بالقيام بأعمال محرّمة، وهو في مثل هذه الحالة، كالذي باع عقله واستسلم لخيال أسود، وكل ذلك هروباً من معرفة الحقيقة، والالتزام بما أقرّه العقل والدِّين.
ومع الأسف، نرى في بعض الأحيان برامج إعلاميّة لشاشات تجاريّة -معروفة لدى الناس- تروّج لأباطيل وعلاجات موهومة، والأدهى من ذلك أنَّها تتكلّم باسم الإسلام والأئمّة الطاهرين عليهم السلام، وهي لا تمتُّ إليهم بصلة، لا بالشكل، ولا بالمضمون.
ثالثاً: آداب المجالس وخرافاتها
1- شبْك اليدين في القِران:
نلاحظ في عادات الجلوس في محافل عقد القران إذا شبك أحدهم يديه يبادره أحدهم فيقول له: "فكّ يديك فهذا دليل شؤم". لأنه يُعتَبر شبك اليدين دليلاً على عدم الموفقيّة بين الطرفين.
2- الطَّرق على الخشب:
إذا جلست جماعة وذكروا شيئاً يفجعهم، قاموا بالطرق على الخشب، خوفاً من الحسد. وهذه العادة الاجتماعية هي من مواريث الحضارة الرومانية، حيث كانوا يعتقدون بأنَّ الشياطين تحبس آلهتهم في جذوع الأشجار، فكانوا يذهبون ويطرقون عليها لفكّها من حبسها، ومن ثم لقضاء حوائجهم من تلك الأرواح -وفق معتقدهم- ومع الوقت أصبحت بشكل تدريجيّ عادة مألوفة عند الناس، فلأجل أن يتعوّذوا من الشيطان فإنّهم يطرقون على الخشب.
3-الطَّرق على بلاطة القبر:
بعض الناس الذين يذهبون إلى المقابر، نراهم أوّل ما يصلون إلى قبر الميّت يطرقون على بلاطة القبر!!! اعتقاداً منهم أنّ ذلك يلفت انتباهه أنَّ فلاناً أتى لزيارتك!
مع العلم أنَّ الروايات ذكرت أنّ قراءة الفاتحة مرة وسورة التوحيد ثلاث مرات، كافية لإعلام الميت بمن يزوره أو يهديه الثواب.
وعليه، فشتّان ما بين خرافات الناس والشعوب بالتعوّذ من ضلال الطرق على الخشب، وبين الدِّين الإسلامي الحقّ الذي أرشدهم إلى الاستعاذة بالله تعالى من كلّ شرِّ.
بعد أن استعرضنا بعضاً من الأمثلة والنماذج الخرافية من الوقائع الاجتماعيّة، لا بدّ أن ننبّه إلى أنّ الخرافة تسري بسرعة بين الناس إذا لم يضعوا لها حدّاً؛ وذلك من خلال مساءلة أهل العلم، لكلّ ما يفعلونه ويشكّون في صحته، قال تعالى: ﴿فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ (النحل: 43).
* لنصحّح مسار ثقافتنا
وممّا لا شك فيه أنَّ التراجع المعرفيّ والفقهيّ عند المسلمين ساهم بشكل كبير في تقوية الخرافات الاجتماعيّة وترسيخها في الثقافة الشعبيّة. وهذا الأمر يتطلّب عملاً دائماً ودؤوباً للتنبيه عليه، وتحذير الناس من المشهورات التي لا أصل لها. ومن الإضافات التي أُلصقت بالشريعة وحياتنا إلى درجة أنّ بعضنا أحياناً -ولقلة المعرفة- يحدّث ببيت شعر ويدّعي أنه آية قرآنية أو حديث شريف، كما سمعت تكراراً ومراراً من بعض الناس، وهو يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مَنْ راقب الناس مات هَمَّاً"(5)، وهو في الحقيقة بيت شعر "لسلم الخاسر"(6) تكملته: وفاز باللذّة الجسور!
فإذا لم ننقّب عن أحاديثنا الاجتماعية والدينيّة بشكل صحيح، فكيف سنصحّح مسار ثقافتنا ونقوّم اعوجاجها؟
(1) الكذب الذي ليس له أصل، كتاب العين، الفراهيدي، ج7، ص65.
(2) المعتقدات والخرافات الشعبية اللبنانية، راجي الأسمر، ص33 - 35.
(3) بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج43، ص144.
(4) (م.ن)، ج79، ص88.
(5) كشف الخفاء، العجلوني، ج2، ص84.
(6) الشاعر سلم بن عمرو بن حمّاد البصري، وسُمّي "سلم الخاسر"؛ لأنه باع مصحفاً واشترى به ديوان شعر لامرئ القيس، (البداية والنهاية، ابن كثير، ج10).