يقول البعض: إنّ الناس ينفضون من حول الإنسان الذي يتميز عنهم لأنهم ينفرون من كلّ غريب، وبما أنّهم أعداء ما جهلوا فهم يرفضون الإنسان المؤمن الذي يطرح أشكالاً غريبة من العادات والتقاليد واللباس والمعاملة، بالطبع (يقولون) نحن نعلم أنّ هذه الأشكال ليست إلاّ أحكام الإسلام من مستحبات وواجبات، ولكن لماذا هذا التمايز طالما نحن نريد هداية الناس وإرشادهم، وليكن هذا الأمر بعد حصول الهداية وارتفاع المستوى الفكري عند الناس، عندئذٍ نرتدي ما نشاء من الزي الإسلامي ونأكل كيفما نريد ونبني بيوتنا على الطراز القديم و...
لقد برز هذا التساؤل بقوة خاصة عندما اتسعت دائرة النفوذ الأجنبي والغربي في مجتمعاتنا، وتحولت عادات الغرب وتقاليده إلى ممارسات عملية حتّى نسي الكثيرون تراث الماضي فضلاً عن تراث الإسلام في أحكامه وشرائعه نتيجة الفجوة الواسعة التي حصلت بين المسلمين والإسلام.
وهكذا اتخذ تطبيق بعض الأحكام الإسلامية طابع الغرابة والاستهجان حتّى لدى المسلمين الذين كانوا يفتخرون يوماً بإسلامهم ودينهم الحنيف.
وحتّى تتمّ الإجابة عن هذا التساؤل بصورة جيدة ينبغي أن نفهم صلب المشكلة، وهذا يتطلّب استعراضها من كافّة الجوانب:
هؤلاء الذين يعترضون على تطبيق الكثير من الظواهر الإسلامية يبدو أنّهم لا يعترضون على نفس الأحكام الإلهية إنّما على التطبيق الحالي في مجتمع غريب كلّ الغرابة عن الإسلام وتعاليمه، وهم يبرّرون هذا الاعتراض بأنّها منفرة ومانعة من جلب الناس ودعوتهم إلى الحقيقة. فعندما ينظر الناس إلى بعضا لشباب في لباسهم وحملهم السبّحة وإلى طريقة تعامل المتزوجين منهم في موضوع الاختلاط عند الزيارات الاجتماعية وكيفية جلوس النساء خلف الرجال في السيارة وغيرها من المسائل يجدون سلوكاً غريباً ويشعرون بنمط بعيد كلّ البعد عن واقعهم وحياتهم، ومما يزيد المسألة تعقيداً أبواق الإعلام الغربي والمتغرّب الذي ما انفكّ يعرض الإسلام بصورة متخلّفة.
فما هو رأي المدرسة الإلهية في هذه المسألة؟ ألم يجوّز الإسلام ترك الكثير من الظواهر لأجل تحقيق الأهداف الكبرى؟
* ظاهر الإسلام وباطنه
الإسلام دين تام وشامل لكلّ أبعاد الحياة الإنسانية وهو يهدي الإنسان بتعاليمه الشاملة إلى السعادة المطلقة، الاجتماعية، الاقتصادية، السياسية والمعنوية. وتتجلّى هذه الهداية في الأحكام الإلهية المبينة في الشريعة الغراء. وأيّ انحراف عن صراط الشرع الأنور يعدّ انحرافاً عن طريق الوصول إلى السعادة المنشودة.
فإذا لم نفهم هذه النقطة بقي الاعتراض على العديد من الأحكام الشرعية في أنفسنا. وذلك لأنّنا لم ندرك تماماً أنّ صاحب الشريعة الغراء وهو الله عزّ وجل واجب الطاعة والعبادة مطلقاً، والاعتراض على أحكامه يعدّ اعتراضاً عليه وهذا هو الكفر، إضافةً إلى الجهل العظيم بهذه الحقيقة وهي أنّه سبحانه وتعالى أعلم بمصالح العباد يهديهم لما فيه سعادتهم وحياتهم الطيبة، وهي الذي أمر المؤمنين بضرورة التحرّك لأجل هداية الناس وإرشادهم. ومن جانب آخر لم يجعل حكماً خاصاً بالهداة والدعاة لترك الظاهر وعدم التميّز.
فنعلم، بالنتيجة أنّ الحكم بضرورة التقيد بالظاهر الإسلامي يكفل شطراً من سعادة الإنسان في كافة المجالات وهو أفضل طريق لهداية الناس وإرشادهم.
وفي الدعاء المنسوب إلى أمير المؤمنين عليه السلام:
"اللهم نور ظاهري بطاعتك وباطني بمحبتك وقلبي بمعرفتك وروحي بمشاهدتك وسري باستقلال اتصال حضرتك يا ذا الجلال والإكرام".
* الضرورات تبيح المحظورات
هذه قاعدة شرعية يستند إليها هؤلاء لأجل تبرير ترك الظاهر ﴿فمن اضطر غير باغٍ ولا عادٍ فلا إثم عليه﴾.
يريدون بذلك أن يدفعوا الإشكال الموجّه إليهم بأنّهم يخالفون الشريعة وبالتالي ليجدوا لأنفسهم عذراً شرعياً.
هنا نسأل: ما هي الضرورة التي تبيح لنا ترك الظاهر؟
يأتي الجواب: ضرورة هداية الناس عندما نجدهم معرضين عنا بسبب الإصرار على الظاهر.
فإذا تحولت وجهة الحديث نحو هذا الموضوع نقول: ينبغي أولاً أن نكتشف السبب الحقيقي وراء نفور الناس، ولا يكفي أن نسمع كلمات اعتراضهم حول الظاهر لنجعله المشكلة الوحيدة.
فالناس إذا روا تصرفاً لا يعجبهم أو عملاً سيئاً من أحد المتدينين قالوا الإسلام هو هكذا، الدين هكذا... فيخلطون ما بين سوء التطبيق والحكم الواقعي. كما نجد في حركة بعض القوميين والمتغربين عندما يحاولون لصق تهمة التخلف الذي يعاني منه المجتمع الإسلامي بالدين. يقولون: انظروا إلى كلّ المسلمين في العالم تجدوهم أكثر شعوب العالم تخلفاً. يريدون بذلك أن يجعلوا الإسلام سبب تخلّفهم. ولكن عند أدنى تأمل في حياة المسلمين، هل نجد تطبيقاً حقيقياً للإسلام في كافة الأبعاد والشؤون؟ لا نجد، إلاّ القشور والبدع وقليل ما هم.
ونعود إلى القول بأنّ مجرد تعبير الناس عن نفورهم لا يعني خطأ الحكم أو عدم ضرورته الآن، بل علينا أن نراجع أنفسنا: هل عقلنا شروط الهداية كافة. فربما كنّا ذاهلين عن بعض المسائل الأساسية في حركتنا الجهادية والتبليغية. واشتبه علينا الأمر، لم ندرِ أنّ الإخلاص والتوجّه إلى الله بصدق هو الأساس بل اعتمدنا الوسائل وأكثرنا من الاستناد إلى قدراتنا الذاتية أو أغفلنا قضية أساسية في التبليغ والهداية وهي الإمساك بلغة العصر التي ينبغي أن نخاطب الناس من خلالها.
* حركة الأنبياء والتمايز
وهؤلاء هم الأنبياء العظام عليهم السلام عبر التاريخ يحدثون ثورات اجتماعية كبرى داخل مجتمعاتهم وأممهم، بدون أن ينخرطوا في التسامح والتساهل في الظاهر، بل كانوا متميزين عن أقوالهم منذ اللحظات الأولى التي انطلقوا بدعوتهم. ويكفي النظر إلى أوائل سورة المدثر حيث قال تعالى:
﴿يا أيّها المدّثر قم فأنذر وربك فكبّر وثيابك فطهّر والرجز فاهجر﴾.
هل كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم نجس الثياب حتّى يأمره الله تعالى بتطهيرها؟ ما نعلمه ونؤمن به أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان طاهراً مطهراً منذ ولادته، وليس هذا إلاّ دعوة لترك كلّ أشكال التقارب من الكفار والمشركين. والعجيب المدهش أنّ هذه الدعوة كانت في البداية الأولى لحركة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم.
ويجب الالتفات إلى نقطة مهمة جداً ترتبط بحركة المصلحين وهي تقابل الفكرة التي يطرحها هؤلاء: فالناس ما لم ييأسوا من إضلال الإنسان وإرجاعه إلى حظيرتهم لن يتأثروا من المبلّغ والهادي، وما دام في أعينهم طمع في حرفه عن طريقه فإنّهم لن يشعروا بأنّ هناك دعوة تقف في مقابل حياتهم وانحرافهم. لقد تعامل الناس عبر التاريخ مع أنبياء تميزوا عنهم في كلّ شيء وأعلنوا البراءة من مسلكهم وحياتهم، ظاهرهم وباطنهم وكان لهذا التمايز أثر بليغ في رجوع الناس إلى أنفسهم وتفكرهم في مصيرهم.
خلاصة الكلام أنّ الطريق إلى الهداية لا يمرّ إلاّ عبر طاعة الله والتزام أوامره في كلّ شؤون الحياة في الظاهر والباطن. وهذا هو معنى الإخلاص الذي هو الشرط الأول للتأثير.
* الخلاصة
1- لماذا يتميز المؤمن عن غيره؟
2- ألا ينفر هذا التمايز الناس من حوله؟
3- طالما أنّ الظاهر هو مطلب إلهي والاعتناء به حكم شرعي، فلا ينبغي تركه.
4- ولكن الضرورات تبيح المحضورات.
5- إنّ مجرّد ِإعلان الناس عن نفورهم لا يعني ترك الظاهر.
6- ومن جانب آخر نجد الأنبياء عليهم السلام الذين هم أعظم المصلحين يتميزون عن أقوامهم في كلّ شيء.
7- وما لم يقطع الناس الأمل في حرف المؤمن عن الحق فلن يقفوا للتفكر.