آية الله جوادي الآملي
في البحث السابق ذكرنا أدلةً قرآنية على ضرورة إرسال الأنبياء وحتمية الوحي وذلك في ثلاثة أصول:
الأصل الأول: الإنسان موجود ينتقل من عالم إلى عالم آخر، وله هدف: فهو لا يزول.
الأصل الثاني: لا يمكن أن يكون هناك هدف بدون طريق. فالمسافر يحدد مقصداً في سفره وبدون الطريق لا يمكنه الوصول إلى ذلك الهدف.
الأصل الثالث: لو كوان المقصد مقتصراً على الدنيا، لأمكن أن يحقق الإنسان هدفه إلى حدٍ ما. ولكن الهدف أهم من الدنيا والآخرة. إنه سعادة الإنسان التي هي أعم من السعادة الدنيوية والأخروية، والقسم الأخروي منها أهم من الدنيوي.
ولهذا فإن تشخيص هذا الطريق ليس في مقدور كل إنسان، فيلزم وجود المرشد حتى يوصل الإنسان في هذا الطريق البعيد والطويل إلى الكمال والهدف والسعادة.
* الرسالة سُنَّة إلهية
إن الله تعالى خلق الإنسان، ولم يتركه بدون مرشد وهذه سنة إلهية. فالله عندما يخلق نبته ما يهيئ لها لوازم النمو، ولا يمكن مثلاً أن يخلق هذا الموجود بدون مطر. وكما أن الذي يتعهد تربية الطفل لا يصح أن يتركه بدون حماية وإشراف لأنه مسؤول عن تربيته، كذلك في هذه الخلقة ونظام الوجود لا يوجد موجود ما بدون عوامل الكمال والنمو... ومنها الإنسان. فالله تعالى لم يترك الإنسان وشأنه ليسلك الطريق الذي يريد، بل إنه أرسل إليه هداة ومرشدين.
وهنا دليل من القرآن على هذا الموضوع: ﴿لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البيِّنة﴾. (البيِّنة- 1)
ما هي هذه البيِّنة؟ يأتي الجواب من القرآن مباشرة: ﴿رسول من الله يتلو صحفاً مطهرة﴾.
والصحف المطهرة هي ما يأتي به النبي، وهي الشريعة والدين بحيث يكون النبي حجة لله على الناس يوضح للجميع طريق الهداية والضلالة.
﴿قد تبين الرشد من الغيّ﴾.
وهنا ينقسم الناس إلى ثلاث فرق:
1- فرقة تقبل الحق، وتسير عليه.
2- فرقة تقف في المقابل وتكذبه.
3- فرقة في الوسط فمرة مع الأولى ومرة مع الثانية.
فكما أن الناس في صحة الجسم ثلاثة أنواع: إما أموات وأما أحياء وإما مرضى، ولا يوجد نوع آخر. كذلك في الأرواح، إما أحياء وأصحاء وهؤلاء هم المؤمنون والعلماء، أو أحياء ولكن مرضى وهم المسلمون الفساق، وإما أموات في أرواحهم وهم الكفار.
ولهذا يقول القرآن الكريم في الآية 52 من سورة الحج: ﴿وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنّى ألقى الشيطان في أمنيته﴾.
هذه الفتنة التي يقوم بها الشيطان في مقابل أمنية النبي وبرنامجه تؤثر في البعض بحيث تجعلهم يقفون مقابل دعوة النبي ويكفرون بها، وفي البعض الآخر تجعلهم مرضى فيكونون من المسلمين الفاسقين، ولا تؤثر في البعض بأي نوع من التأثير وهم المؤمنون. ولكن:
﴿فينسخ الله ما يُلقي الشيطان﴾.
فإذا بالبرامج الإلهية تنفذ: ﴿ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم﴾.
وقد ذكر الله الفئتين اللتين تتأثران من وسوسة الشيطان: ﴿ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم﴾.
وكذلك يعتبر القرآن أولئك الذين يتحركون نتيجة سماع صوت الأجنبية مرض، ولهذا فإنه يأمر زوجات النبي أن لا يرققن صوتهن: ﴿في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً﴾.
والإسلام يعتبر عدم الفقه مرض وكذلك سائر المعاصي.
وأما المقصود من "القاسية قلوبهم" فهم الكفار والمنافقون، لأنه عندما تتبدل الصغائر إلى كبائر تكون عاقبة القلب القساوة، وعندها لن يكون لتعاليم الأنبياء أي تأثير.
في الآية 16 من سورة الحديد يذكر القرآن قساوة القلب: ﴿ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم﴾.
الفتنة التي يقوم بها الشيطان في مقابل أمنية النبي وبرنامجه تؤثر في البعض بحيث تجعلهم يقفون مقابل دعوة النبي
ولتقريب فهم هذه الآية، تأملوا في المياه المعدنية التي تحمل معها الترسبات والتي تزيد مع استمرار جريان المياه حتى يمكن أن تصل إلى مرحلة تسد عليها نفسها الطريق. فالأمراض في وجود الإنسان مثل الترسبات المعدنية، إذا طالت صعب علاجها حتى تصل إلى مرحلة قساوة القلب وموته وبالتالي تمنع الإنسان من الوصول إلى الكمال.
أمَّا الفئة الثالثة التي قبلت تعاليم الأنبياء والتي لم تؤثر فيها فتنة الشيطان فإن الآية 54 من سورة الحج تقول عنهم:
﴿وليعلم الذي أوتوا العلم أنه الحق من ربِّك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم﴾.
وهكذا فإنهم ينعمون بتوفيق الله وهدايته: ﴿وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم﴾.
وكذلك يهديهم الله سبحانه بالهداية العامة: ﴿وهديناه النجدين﴾ وهذه الهداية خاصة بالذين اتبعوا طريق الأنبياء.
الخلاصة:
نبين الآن باختصار ما مر معنا:
أولاً: السنة الإلهية تقتضي وجود الأنبياء ودعوتهم وهم البيِّنة الإلهية.
ثانياً: ينقسم الناس إلى ثلاثة أقسم مقابل دعوة الأنبياء:
1- المكذبون.
2- المؤمنون.
3- المتأرجحون وهم المسلمون الفاسقون.