آية الله جوادي الآملي
تبيّن لنا من البحث الماضي أن عقل البشر لا يكفي للمعرفة، لأن العق لا يملك تلك الرؤية الواسعة التي تدرك كافَّة الحاجات الضرورية للإنسان وسُبل الوصول إليها، لهذا نجد أن أولئك الذين وقفوا مقابل الأنبياء واكتفوا بعلومهم المحدودة قد ذمَّهم القرآن وقال عنهم:
﴿هم عن الصراط لناكبون﴾.
* معيار العقل في القرآن
يوجد في القرآن آيات عديدة تبيّن معيار العقل والمنطق، وتميَّز العاقل من السفيه، منها ما جاء في سورة البقرة الآية 13:
﴿ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلاَّ من سَفهَ نفسه﴾.
فمن يرغب عن دين إبراهيم ليس بعاقل. ومن هذه الآية يُعلم أن معيار العقل هو دين إبراهيم عليه السلام .
وتلك الرواية التي نقلت عن الإمام الصادق عليه السلام عندما سئل عن العقل فقال: "العقل ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان".
وأصلها القرآني هو تلك الآية، لأن الإمام عليه السلام يقول إن العقل ما يعبد به الرحمن ويوصل به إلى الجنة لا شيء آخر. والآية تقول أيضاً: أن من يعرض عن دين إبراهيم فليس بعاقل. فالعقل هو ذلك الشيء الذي يهدي إلى هذا الدين. وقد تبيّن في الأبحاث السابقة أن العقل مصباح وليس بطريق.
العقل يقول: ينبغي أن نجد الطريق، والأنبياء هم الذين يبيِّنون الطريق، ومن يبتعد عن طريق الأنبياء ليس بعاقل.
وكما بيّن القرآن السفاهة كذلك يبيّن الرشد. ففي الآية 7 من سورة الحجرات يقول تعالى:
﴿واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لَعَنِتُّم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزيّنه في قلوبكم وكرّه إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون﴾.
والنتيجة أن الشيء المحبوب عند الإنسان إمَّا أن يكون الإيمان أو غير الإيمان أو الآمرين معاً. فلو كان الأمران معاً لما أمكن ذلك لأن الله تعالى يقول:
﴿ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه﴾ (الأحزاب- 4).
والإنسان الذي ليس له إلا قلب واحد لن يكون له إلاّ محبوب واحد. فلو كان غير الإيمان محبوباً عند الإنسان فهو سفاهة، أما إذا أحب الإيمان فهو رشد وتعقّل.
* الإيمان زينة القلب
في الآية المذكورة عُرِّف الإيمان على أنَّه زينة القلب: ﴿ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزيَّنه في قلوبكم﴾.
كل ما في الدُّنيا وكل ما هو خارج روح الإنسان ليس بزينة، بل الإيمان والاعتقاد الذي يرسخ في أعماق الروح هو الزينة.
فمثلاً نجد أن:
النجوم هي زينة السماوات:
إن العقل هو ما يعبد به الرحمن وما يوصل به إلى الجنة. ﴿وزينا السماء الدنيا بمصابيح﴾ (فصلت- 12). وتقول الآية 7 من سورة الكهف:
﴿إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها﴾.
فهنا ما في الأرض زينة للأرض، ولكن مثل هذه الزينة وكل ما هو موجود في عالم الطبيعة سائر نحو الذبول والفناء ﴿وإنا لجاعلون ما عليها صعيداً جُرُزاً﴾ (الكهف- 8).
الشيء الذي يتطرّق إليه الفناء والذبول لا يمكن أن يكون زينة الإنسان، بل الشيء الوحيد الذي يمكن أن يكون كذلك هو الإيمان الذي يبقى في القلب:
﴿وزيّنه في قلوبكم﴾.
فإذا حصلتم على هذه الصفة فأنتم الراشدون.
* الأنبياء أسوة
هذه المطالب التي بيّنها القرآن أوامر عامَّة وحقائق وصلتنا من خلاله ولكي نتَّبع هذه التعاليم ونجدها مجسَّدة ومحقّقة في الإنسان الكامل فإن القرآن يعطينا قدوة. في آيات من القرآن نجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو أول المسلمين وينبغي أن نقتدي به:
1- الآية 14- سورة الأنعام: ﴿قل إنّي أمرت أن أكون أول من أسلم﴾.
2- الآية 162- سورة الأنعام: ﴿وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين...﴾.
3- الآية 13- سورة الزمر: ﴿قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين﴾.
هذه آيات تعرّف الرسول بأنه أول المسلمين.
وفي آيات أخرى من القرآن الكريم نجد تعريفاً بالأنبياء ونبي الإسلام الأعظم وأحياناً أتباعهم وتلامذتهم بأنهم أسوة وقدوة:
1- الآية 21- سورة الأحزاب: ﴿لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة﴾.
2- الآية 4- سورة الممتحنة: ﴿قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه﴾.
3- الآية 6- سورة الممتحنة: ﴿لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله﴾.
* نتيجة البحث
ينبغي أن لا يقبل الإنسان غير الإسلام لأن قبول غيره يعد سفاهة، ولا ينبغي أن يقبل الأمرين معاً لأنه ليس له قلبان معاً، ومن جانب آخر جاء في الآية الشريفة: ﴿ومن يبتغِ غير الإسلام ديناً فلن يُقبَل منه﴾.
وقد اتّضح في البحث السابق أنّ الحق لا ينسجم مع أي باطل، أمَّا مزج الباطل بالحق، فإنه يجعل الحق باطلاً
﴿قل جاء الحق وما يبدىء الباطل وما يعيد﴾.
فلا مكان للباطل قديماً وحديثاً. ونحن نستنتج أن رسول الله هو القدوة الذي ينبغي أن يتّبع. فقد بعث حتى يطرد الجاهليات بالنور كما فعل في عصره.
كان المجتمع في جهل بحيث أن الوالد يقتل ولده ويفتخر بذلك ويعدّ ذلك العمل زينة له. وقد وردت هذه المسألة في عدة أمكنة من القرآن:
1- الآية 31- سورة الإسراء. ﴿ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق﴾.
2- الآية 8- سورة التكوير: ﴿وإذا الموءودة سُئلت بأي ذنب قتلت﴾.
كان لقتل الأولاد عوامل عدة، ولكن المهم هو أنهم كانوا يفعلون ذلك تقرّباً للأصنام ويعتقدون أن ذلك يعدّ عبادة. كما في الآية 137 من سورة الأنعام:
﴿وكذلك زَيَّن لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم﴾.
كل ما في الأرض هو زينة للأرض، لأن الشيء الذي يتطرق إليه الذبول والفنا لا يمكن أن يكون زينة للإنسان.
فالأصنام كانت محبوبة عندهم إلى درجة أنّهم كانوا يقدّمون أولادهم قرابين لها. من هنا نفهم كيف أنّ الرغبة عن الدين تكون سفاهة. وقد جاء الرسول ليضيء على عالم الجاهلية فيكون قدوة للعالمين، فنحن نجهل الكثير من الأمور ولا نعلم شيئاً عن المستقبل ولا نعلم ما يضرّنا وما ينفعنا. فالطريق الوحيد هو طريق الأنبياء عليهم السلام.
□ كيف يجب أن نتَّخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسوة ومتبعاً؟
لنسمع هذه الحقيقة من القرآن حيث يقول:
﴿يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله﴾ (الحجرات- 1).
فلا تتقدموا عليه بل ألحقوا به. ولا تتَّبعوا الهوى ﴿واتّقوا الله إن الله سميع عليم﴾.
واجعلوا التقوى شعاركم، لأن التقي لن يفعل ذلك أبداً.
عندما يصف الله عز وجل الملائكة يقول: ﴿لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون﴾ (النساء- 27).
وهكذا ينبغي أن يكون الإنسان في كل أبعاد حياته. فقد كَرّمهم الله لذلك، وأنتم يمكن أن تكرّموا أيضاً بذلك.
إن مؤمن آل فرعون الذي قام واستشهد جُعل من المكرمين كما يحكي القرآن عنه:
﴿قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين﴾ (يس- 27).
إن القرآن لا يمر سريعاً على المطالب كما أنه لا يستغرق فيها ففي هذه الآية نكات ومواعظ للناس:
1- الآية 20- سورة يس: ﴿وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتّبعوا المرسلين، اتبعوا من لا يسألكم أجراً وهم مهتدون﴾.
حيث يستفاد من هذه الآية أمران يساعدان في سرعة قبول الحق: الأول كلام الحق، الثاني: عدم الطمع المادي، حسن الفعل وحسن الفاعل. فأحياناً يكون المرء جيداً ولكن كلامه ليس جيداً، وأحياناً يكون الكلام جيداً ولكن الروح غير نظيفة. لهذا، إن هذين الشيئين لازمان للقيادة وهما متحققان في الأنبياء. ولهذا قُبل هذا الشهيد فوراً وقال:
﴿ما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون﴾.
(يتبع)