نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

ضرورة العمل الاجتماعي والسياسي مع تهذيب النفس

السيد كاظم الحائري


إن المألوف الغالب في وضع الصوفيّة هو إبعاد الناس عن العمل السياسي الاجتماعي. وقد يُدّعى إنْ تزكية النفس بحاجة إلى الاختلاء والابتعاد عن وضع المجتمع.

* مسؤولية الإنسان على الأرض
ما يمكن أن يقال هو صحيح أنّ تربية النفس لا تستغني عن نوع من الاختلاء بالله، وهو أمر مرغوب فيه شرعاً، إلاّ أنّ الشريعة أمرت بتوزيع هذا الاختلاء على تمام العمر يوماً فيوماً بتخصيص ساعة للاختلاء، وأفضل الساعات لذلك هو جوف اللَّيل الغابر ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا المزمل/6-7. فالنهار يناسب السبح في المجتمع وفي مسرح الحياة وفي الأعمال الدنيويّة والأُخرويّة، وغابر الليل يناسب الخلوة مع الله سبحانه وتعالى. وهذا معنى توزيع الخلوات على تمام أيام العمر من دون الانقطاع عن الأعمال الاجتماعيّة والسياسيّة، وكشف منابع الطبيعة ونعمها واستثمارها. أمّا الانصراف تمام العمر أو ردحاً من الزمن عن العمل السياسي الاجتماعي وبحُجّة تزكية النفس أو بأيّة حُجّة أخرى، فهذا ليس من دأب الإسلام. وهذا خلاف العمل بخلافة الله على وجه الأرض.

قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً البقرة/2. فليس معنى ﴿جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً كون مهبط الخليفة هو الأرض فحسب من دون أن تكون الخلافة على الأرض، بل معناه: أنّه في الأرض، وأنّه خليفة على الأرض، فعليه أن يستعمر الأرض ويستثمرها. ويرعى ما عليها ومَنْ عليها كلّ بمستواه. وطبعاً مستوى المعصومين هو الخلافة المشتملة على ولاية الطاعة. وقد ورد في الحديث: "مَنْ أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم". وورد: "لا رهبانيّة في الإسلام".

* رأي الإسلام
ورسول الله صلى الله عليه وآله  لم يربِّ أصحابه على الانفصال عن العمل السياسي الاجتماعي دائماً أو ردحاً من الزمن، بل زجّهم من أوّل زمن شوكة الإسلام. في الحروب والأعمال السياسية، وكانت الخلوة مع الله ثابتة بينهم بشكل موزّع على أيام العمر، وكان هو وطائفة من الذين معه يقومون بالعبادة في جوف اللّيل الغابر. هذا، والعزوف عن الحياة الاعتياديّة والترهبن والتعمد في ترك اللّذائذ المحلِّلة أيضاً أمر مرغوب عنه في الإسلام. يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ المائدة/87-88. وفي آية أخرى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ... الأعراف: 22. وأيضاً: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ... القصص/77. وفي الروايات: عن الصادق عليه السلام قال: "إنّ ثلاث نسوَة أتين رسول الله صلى الله عليه وآله فقالت: إحداهنَ: إنّ زوجي لا يأكل اللّحم. وقالت الأُخرى: إنّ زوجي لا يشمّ الطيب، وقالت الأُخرى: إنّ زوجي لا يقرب النساء. فخرج رسول الله صلى الله على وآله وسلم يجرّ رداءه حتى صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ما بال أقوام من أصحابي لا يأكلون اللّحم، ولا يشمّون الطيب، ولا يأتون النساء؟! أما إنّي آكل اللّحم، وأشمّ الطيب وآتي النساء، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي".

* الطريق الصحيح لتهذيب النفس
إنّ هناك طُرُقاً ثلاثة لتهذيب النفس وتصفيتها، ثالثها هو الصحيح، والأوّلان ليسا شرعيين:
الطريق الأول الترهبن أو ترك الدنيا ونعيمها. وهذا ما عرفت مما سردناه لك من الآيات والروايات خطأه، نعم، هناك نكتتان لا ينبغي إغفالهما:

الأُولى أنَّ تنعّم العبد بما آتاه الله من النعم المحلَّلة في الدنيا لا ينبغي أن يوجب تغافله عن مواساة الآخرين، أو تناسبه لما ينبغي أن يصرفه في مصالح الإسلام والمسلمين، أو انشغاله عن أمر الآخرة، كما في كلام أمير المؤمنين عليه السلام للعلاء بن زياد: "ما كنت تصنع بسَعة هذه الدار وأنت إليها في الآخرة كنت أحوج، وبلى إن شئت بلغت بها الآخرة...".

والثانية أنّ التنعّم بتلك النعم المحلّلة لا ينبغي أن يصل إلى مستوى تعلّق القلب بها. فيأسى على ما فاته، بل ينبغي أن يكون في الرضا بقضاء الله على مستوى بحيث لو عاش في اليوم الأوّل غارفاً في النعم وفي اليوم الثاني فاقداً لها جميعاً لكان وضعه النفسي سواءً، وذلك تسليماً لما يرضاه الله تعالى وثقةً بأنّه سبحانه وتعالى لا يقدّر إلاّ ما فيه الخير والصلاح. وهذا هو الزهد المفهوم من قوله سبحانه وتعالى: ﴿لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ... الحديد/23 فالزهد الحقيقي هو أن لا يملكك شيء، لا أن لا تملك شيئاً. والطريق الثاني الابتعاد عن الخدمات الاجتماعية والسياسية للإسلام وللمسلمين، والتفرغ للخلوة مع الله سبحانه وتعالى وتزكية النفس، وهذا أيضاً غير صحيح، فإنّه خلاف مقام خلافة الإنسان لله على وجه الأرض. وخلاف ضرورة الاهتمام بأمور المسلمين، وخلاف طريقة تربية الرسول صلى الله عليه وآله لأصحابه.

والطريق الثالث هو العمل في خطّين متوازيين في وقت واحد: أحدهما خطّ الخلوة مع الله وتصفية الباطن عن طريق مدارسة الوضع الباطني والاهتمام به. والثاني خط الاهتمام بأُمور المسلمين. وهذا هو الطريق الصحيح.

* علاج النقص في النفس
وتوضيح المقصود: أنّ في النفس البشريّة نقصين لا بدّ من علاجهما في مقام السلوك إلى الله وارتقاء مدارج الكمال:
الأوّل ضيف أُفق نفس الشخصي عن مصالح غيره وعدم الاهتمام إلاّ بمصالح نفسه، في حين أنّ الآخرين أيضاً هم عباد الله، والله تعالى يريد مصلحتهم. والثاني سُمك المادّة الذي حجبه عن المصالح المعنويّة والأُمور الروحانيّة. ولربما يخفّف بعض الضيق الأوّل. فتراه يهتمّ بمصالح غيره ولو في إطار من القوميّة مثلاً والذي هو إطار ضيّق بالقياس إلى إطار البشريّة أو إطار المذهب الصحيح، ولكنّه لم يخفّف عن نفسه سُمك المادة، بل ربّما لا يكون مؤمناً بما وراء المادّة، ولا يؤمن بالله العليّ العظيم وإن كان من صفته وشيمته الاهتمام بقومه أو بالإنسانيّة مثلاً. ولربّما ترى بعض أهل العرفان (غير العرفان الصحيح الذي أراده الإسلام) يعكس الأمر، فقد يخفّق حجاب سُمك المادّة عن بصيرته، ويلتذّ بلقاء الله بالمعنى المعنوي من اللقاء، ولكنّه يحصر ذلك في إطار نفسه؛ لأنه يعيش ضيق أُفق النفس، فلا يهمّه الآخرون ويقول: إنّ علاج الآخرين إنّما يصحّ لي حينما لا يضر بحالتي العرفانيّة أو يزاحمها. والصحيح: هو ضرورة علاج كلا النقصين اللذين أشرنا إليهما بقدر الإمكان، وهما: حجاب سُمك المادّة في مقابل المعنويات، وضيق الأُفق في مقابل الآخرين. وهذان المنهجان أعني: منهج ترقيق حجاب المادَّة والالتذاذ بالمعنويات، ومنهج توسيع الأُفق الضيّق الذي حصرنا في الاهتمام بالتذاذ أنفسنا ولو التذاذاً معنوياً لو لم يعمد إلى الفصل بينهما فهماً بحد ذاتهما وفيما بينهما متفاعلان.

وقد ورد في الحديث عن الصادق عليه السلام: "خصلتان مَنْ كانتا فيه وإلاّ فأعزب ثُمّ أعزب ثُمّ أعزب، قيل: وما هما؟ قال: الصلاة في مواقيتها والمحافظة عليها، والمواساة". أقول: كانّ الأولى وهي: المحافظة على الصلاة وفي مواقيتها تنظر إلى جانب ترقيق حجاب سُمك المادة والثانية وهي: المواساة تنظر إلى جانب كسر ضيق أُفق النفس وتمحوره على مصالح نفسه دون الآخرين.

* أهمية العمل السياسي والاجتماعي
والعمل السياسي الاجتماعي في سبيل الله من أقصر الطرق لرفع سُمك المادّة عن ملاحظة المعنويات أيضاً ولتهذيب النفس وتزكيتها. وإليك مثلاً من آلاف الأمثلة: إنّ حرّ بن يزيد الرياحي ارتكب أعظم جريمة بمنعه للحسين عليه السلام وأصحابه وأهل بيته عن الرجوع إلى المدينة، ولكنّ المشهد الاجتماعي الذي شاهده في كربلاء هزّه إلى حدّ أخذته الرعدة، فقال له المهاجر بن أوس: إنّ أمرك لمريب، والله ما رأيت منك في موقف قطّ مثل هذا، ولو قيل لي: مَن أشجع أهل الكوفة؟ لما عدوتك، فما هذا الذي أرى منك؟ فقال له الحرّ: إنّي والله أُخيّر نفسي بين الجنّة والنار، فوالله لا أختار على الجنّة شيئاً ولو قُطِّعت وأُحرِقت. ثمّ ضرب فرسه فلحق الحسين عليه السلام، فقال له: جعلت فداك يا بن رسول الله أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع، وسايرتك في الطريق، وجعجعت بك في هذا المكان، وما ظننت أنّ القوم يردّون عليك ما عرضته عليهم، ولا يبلغون منك هذه المنزلة، والله لو علمت أنّهم ينتهون بك إلى ما أرى ما ركبت مثل الذي ركبت، وأنا تائب إلى الله ممّا صنعت، فترى لي من ذلك توبة؟ فقال له الحسين عليه السلام: "نعم يتوب الله عليك". فقاتل رحمه الله الأعداء إلى أن قُتل في سبيل الله، فاحتمله أصحاب الحسين عليه السلام حتى وضعوه بين يدي الحسين عليه السلام وبه رمق، فجعل الحسين يمسح وجهه ويقول: "أنت الحرّ كما سمْتك أمّك، وأنت الحرّ في الدنيا، وأنت الحرّ في الآخرة".

والخلاصة: نّ المسلك الصحيح في تهذيب النفس وتزكيتها هو: الجمع بين الأمرين: كسر ضيق النفس عن مصالح الآخرين، وتخفيف حجاب سُمك المادّة عن مشاهدة المعنويات والسفر إليها والالتذاذ بلقاء الله بعين القلب والبصيرة.
ففي الأوّل يجب أن نقتدي بإمامنا أمير المؤمنين عليه السلام الذي كان يعطف على الأسير الذي تحت يده وإن كان قاتلاً له عليه السلام، ويقول للحسن عليه السلام: "أرفق يا ولدي بأسيرك، وأرحمه، وأحسن إليه، وأشفق عليه، ألا ترى إلى عينيه قد طارتا في أُمّ رأسه، وقلبه يرجف خوفاً ورعباً وفزعاً". فقال له الحسن عليه السلام: "يا أباه قد قتلك هذا اللعين الفاجر، وأفجعنا فيك وأنت تأمرنا بالرفق به"؟!. فقال له عليه السلام: "نعم يا بنيّ نحن أهل بيت لا نزداد على الذنب إلينا إلاّ كرماً وعفواً، والرحمة والشفقة من شيمتنا لا من شيمته، بحقّي عليك فاطعمه يا بنيّ ممّا تأكله، وأسقه ممّا تشرب، ولا تقيّد له قدماً، ولا تغلّ له يداً، فإن أنا متُ فاقتصّ منه، بأن تقتله وتضربه ضربة واحدة، ولا تحرقه بالنار، ولا تمثّل بالرجل. فإنّي سمعت جدّك رسول الله صلى الله عليه وآله : "إيّاكم والمثلة ولو بالكلب العقور" وإن أنا عشت فأنا أولى بالعفو عنه، وأنا أعلم بما أفعل بهچ، فإن عفوت فنحن أهل بيت لا نزداد على المذنب إلينا إلاّ عفواً وكرماً".

وفي الثاني أيضاً لدينا نصوص كثيرة منها: عن مولانا الصادق عليه السلام: "إن القلب السليم الذي يلقى ربه وليس فيه أحد غيره". وهذا يعني: أنّ كلَّ ما سوى الله ليس له وجود في قلبه، إلاّ بأن يتلوّن بلونه سبحانه. فإذا أحبّ ولده أو تلاطف مع عائلته فإنّما يفعل ذلك لأنّ الله أمر بذلك، وإذا أحبّ أولياء الله فلأنهم متصفون بصفات الله ومتقربون إلى الله، وإذا اكتسب أخاً فهو يكتسبه في الله...

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع