موسى حسين صفوان
إذا اعتبرنا أن القضايا المعاصرة هي تلك التي تخرج من الأطر التاريخية والجغرافية والديموغرافية والإثنية الضيقة، لتكتسب شمولية إنسانية واهتماماً عالمياً فإننا على هذا الأساس يمكننا أن نعتبر العرفان - بمفهومه العام الذي هو التوجه القلبي نحو المطلق - بمثابة قضية إنسانية معاصرة، بل هي كانت وسوف تبقى منذ وجد الإنسان قضية ضرورية ذات قيمة إنسانية ذات جدوى فردية واجتماعية مقابل القيم المادية الظلامية السائدة في هذا العالم.
إن العرفان بمصطلحاته ومفرداته وطرائقه السلوكية، وأسسه النظرية، لم يصبح حتى الآن علماً عالمياً محدد المفاهيم والمفردات... كل ما هنالك، أن النزعة التطهرية، والسلوك القلبي والروحي، والقيم التأملية، والمجاهدة للشهوات الغريزية، وكل ما يمثل الطرائق الروحية التي تصرف الإنسان عن رغباته السفلية، وتتوجه به إلى قيم علوية سامية، هذه النزعة؛ لما يشهد التاريخ القديم والحديث، لا تقتصر على أمة دون أمة، ولا على دين وحده، بل إنها لا تكاد تخلو من دين أو أمة أو شعب من اشعوب. حتى المدارس الفلسفية، فهي تقسم إلى الفلسفة (اللذاتية hédonisme التي تجعل اللذة محور حياة الإنسان وتعتبرها الخير الأسمى، والفلسفة (السعادية eudémonisme التي تحل السعادة محل اللذة كغاية مطلقة. ومن المعروف في هذا المجال مذهب أذلاقون، وكذلك أرسطو ولكن الأخير يُغلِّب المنطق العقلي على المثالية الأفلاطونية.
وقبل ظهور الفلسفة اليونانية ظهرت في الشرق، خاصة عند حكماء الهند مدارس روحانية تدعو إلى ما يسمى الرحيل إلى الغابة بمعنى الهجرة نحو المطلق والاستعداد للخلوة التامة (فانابرشتها Vanaprashtha‚ أما العارف القديس فيطلقون عليه اسم بهشكو bhikshu وهو المسافر طراً المتخلي عن بدنه، المتوحد مع الذات المطلقة والخالدة. وفي الديانات الهندية، نجد اللاهوت التصوفي في كتب (الأوبنيشاد Obnishad وفي المهابهارتا Mahabharta - الأنشودة الإلهية، بهاغافادجيا Bhagavadgita وتظهر الفيدانتا Vidanta‚ التي تعتمد اليوغا، كطريقة سلوكية، صفات كريشنا Krishna السرمدية، الذي يشبه المسيح Crist المتجسد في الديانة المسيحية، وذلك من حيث تجسده، وقدومه إلى العالم في مهمة إصلاحية. كما نجد في (البهاكتي يوغا Bahakti yoga مدرسة في الورع، حيث يكون الله في قلب الورع. وهناك المدارس البوذية التي جاءت متأخرة عن البراهمية، والتي تعتبر نفسها هي الأخرى طريقة في الوصول إلى المطلق والإتصال بالذات العليا. وكذلك حال زارادشت في بلاد فارس، وتتلخص المفاهيم العامة لهذه الديانات السلوكية بثلاثة يتمحور حولها الجهد الإنساني، وهي:
- معرفة الله الواحد المطلق.
- خلود الروح.
- محبة الإنسان.
وهذه القيم يمكن قراءتها في كل الثقافات والديانات الإنسانية ومن هنا يمكن النظر إلى العرفان كمدرسة سلوكية إنسانية يمكن بلورة مفرداتها وطرحها بأسلوب إنساني معاصر، لتكون قضية إنسانية تواجه جملة المشاكل الروحية والنفسية والاجتماعية التي يعاني منها الإنسان اليوم نتيجة ابتعاده عن الروح واستغراقه في القيم المادية اللذّاتية. ولحسن الحظ، هناك مدارس عدة منها المدرسة التعددية، والمدرسة الشمولية، واللتان تنظران إلى المعتقدات والديانات الإنسانية نظرة أكثر انفتاحاً، مما يتيح المجال للدخول في تفاصيل تلك المدارس، ودراستها بتجرد، وبروح علمية، وهذا ما يتيح مقولة حوارا لحضارات، ويحقق التقارب ما بين بني البشر.
وخلاصة القول، إن الإنسانية - يمكن الإدعاء - متفقة من حيث المبدأ على الغايات العامة، والكليات العرفانية، وتحتاج للدخول في التفاصيل إلى محاكمة التفاصيل على أساس الكليات واختزال الزبد والإبقاء على اللب، وهو أمر وإن كان صعباً لما تنطوي عليه تلك التفاصيل من القداسة، ولكنه ليس مستحيلاً.