نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

العرفان بعيداً عن التشويه

الشيخ أحمد جابر

يُعتبر علم العرفان الإسلامي من العلوم التي نشأت في الوسط الإسلامي، واستقت أصولها من منابع الإسلام الأساسية، أي الكتاب والسنّة المطهّرة للمعصومين عليهم السلام. وقد كان في انطلاقته ابتداءً، وفي تكامله وتطوّره في المراحل التالية التي أعقبت مرحلة التأسيس، يعبّر عن تلك الرغبة المتأصّلة في وجدان الإنسان المسلم، للاتّصال بعالم الغيب، والاستفاضة منه وجعل العلاقة مع الله تعالى - مبدأ الوجود وغايته - علاقة وجد وحبّ لا علاقة تقتصر على الرسوم وتقف عند حدود العقل فحسب.

*العرفان نظريّ وعمليّ
ويتحدّث أهل هذا العلم عن صنفين له، شاع الحديث عنهما في أوساط الباحثين في علم العرفان، هما: العرفان النظريّ والعرفان العمليّ.

أمّا العرفان النظريّ فيُقصد به التعرّف نظريّاً وفكريّاً إلى رؤية العرفان لحقيقة الوجود والغاية منه ﴿إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ (البقرة: 156)، وأنّ الكون وكلّ ما سوى الله تعالى إنّما هو آياته وتجلّياته وظلال لنوره تعالى ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (النور: 35)، وأنّ كلّ شيء صادر عنه ومآله إليه شاء ذلك أم أباه ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (الانشقاق:6)، وأنَّ الإنسان الكامل - ومصداقه الأنبياء والأولياء المعصومون عليهم السلام - هو خليفة الله في أرضه، لأنّه وصل في سلوكه ومجاهدته لنفسه إلى ذروة ما يمكن أن يصل إليه مخلوق في القرب من الحقّ تبارك وتعالى.

وأمّا العرفان العملي فهو بيان للقواعد والمبادئ التي ينبغي أن تحكم مسيرة السالك إلى الله تعالى، الهادف لنيل تلك المعرفة عياناً ومشاهدة. وهو إنّما يحتاج لتلك القواعد والمبادئ ليكون في سلوكه بعيداً ما أمكنه عن الأوهام وتسويلات الشياطين والنفس الأمَّارة بالسوء، التي ستتدخّل حتماً لحرفه عن بغيته، وقد تصوّر له الباطل بصورة الحقّ وتلبسه لباسه ليسهل عليها إيقاعه في شركها.

*ملاحظات ومناشئ
إلّا أنّ هذا العلم قد تعرّض بقسميه لملاحظات عديدة، بعضها وللإنصاف كان موضوعيّاً، وبعضها الآخر كان نتيجة بعض الممارسات الخاطئة لبعض المنتسبين لهذا العلم، أو فقل لبعض منتحلي صفة الانتساب إليه - وهم ليسوا بالقليل، وقد أساؤوا كثيراً لصورة العرفان الحقيقية - وقسم من تلك الملاحظات، ولعلّه يشكّل السهم الأوفر منها كان -وما يزال- ناشئاً من محدوديّة الاطّلاع على أصول ومبادئ علم العرفان، وعدم مراجعة كلمات أهل الاختصاص فيه للوقوف على مرادهم فيما يتكلّمون أو يكتبون.

وفي النتيجة، اتُّهم علم العرفان بمجافاته للعقل، وابتعاده عن ضروريات الدين الإسلاميّ ومسلّماته، وقيل إنّه متأثّر بنسبة عالية بأمزجة أدعيائه، أو إنه علم وافد على الإسلام وإن جذوره الأساسية ترجع إلى ملل ومذاهب مختلفة كلّها أجنبية عن الإسلام وأهله... إلى غيرها من الاتهامات التي يطول الكلام بذكرها.

وأتصوّر أنّه ما دام قسم كبير من الملاحظات ناشئاً، بنحو أو بآخر، من تصوّر عدم وجود ضابطة لعلم العرفان، فيسهل بالتالي نسبة الكثير من الانحرافات إليه. لذلك سأتعرّض للمعايير التي ينبغي أن تحكم هذا العلم وتكون ميزاناً لدعاويه ومشاهدات أصحابه. ومن خلال الالتفات إلى تلك المعايير يتّضح نوعاً ما الأساس في كيفيّة معالجة تلك الملاحظات.

*الميزان في علم العرفان
يعتبر البحث حول ميزان علم العرفان من الأبحاث المهمّة التي يتطرّق إليها المصنّفون فيه. والسؤال المطروح إنمّا هو عن المعيار المعتمد في تقويم مدّعياته بعد التسليم بضرورة وجود المعيار.

ما يستنتج من كلمات العرفاء وجود ثلاثة موازين في المقام:
1- الميزان العام: ويقصد به الشريعة الإسلاميّة التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقوامها الأساسي ركيزتان، القرآن الكريم والأحاديث المأثورة عن المعصومين عليهم السلام.
ومعنى هذا الميزان أنّه ينبغي عرض كلّ دعوى يطرحها من يدّعي الانتساب لمسلك العرفاء أوّلاً وفي بادئ النظر على القرآن والسنّة، فما كان معارضاً لهما طُرِحَ جانباً، بل وحُكِم بكذبه وبطلانه.
وهذا ميزان عامّ لأنّه معيار لكافة الناس، وينبغي اعتماده في كافّة الأحوال والظروف (1).

2- الميزان الخاصّ أو أستاذ السلوك:
لطالما أكّد العرفاء على لزوم اتّخاذ الأستاذ المرشد أثناء طي منازل السفر إلى الله تعالى. وهم في المقابل يحذّرون من إهمال هذا الأمر واعتماد السالك على نفسه فحسب في سيره وسلوكه، ويعتبرون أنّ في ذلك نتائج وخيمة على السالك.
أمّا لماذا نحتاج إلى الأستاذ المرشد؟ فلأنه وكما هو المفروض قد خاض التجربة من قبل، وصار أخبر من غيره بعقبات الطريق، فأصبح أقدر على إرشاد السالك لما ينبغي له القيام به.
ولكن ينبغي ألا ننسى، ونحن نتكلم عن هذا الميزان، الميزان العام أي الشريعة الإسلامية، التي ينبغي أن يتمّ التعامل معها على أساس اعتبارها حاكمةً على ما يذكره الأستاذ المرشد، ومعياراً وأساساً في قبول إرشاداته وتوجيهاته أو عدم قبولها.

3- العقل:
وهذا هو الميزان الثالث، ويراد به العقل المنوَّر بنور الشريعة، الخارج من عباءة التقليد الأعمى. ومن هنا نجد تأكيد بعضهم على لزوم تحصيل العلوم النظرية كالمنطق والفلسفة قبل الشروع في السير والسلوك أو في بداياته(2).

*فقهاء علماء عرفاء
خلال ما تقدّم يتّضح أنّ هذا العلم ليس بلا ضابطة، وهو ليس شرعةً لكلّ وارد، بل هو علم مقنَّن. وهو ليس مجافياً للعقل، أو بعيداً عن ضروريات الدين الإسلاميّ، بل هو محكوم لهما، وأنّه ليست كلّ دعوى نسمعها ممن يدّعون الانتساب إليه يجب تلقّيها بالقبول، بل إنَّ كلّ شيءٍ فيه خاضع للمحاكمة والتمحيص، ولكن بعقل موضوعي غير مأخوذٍ بالأحكام المسبقة التي تمنع صاحبها عن الإنصاف في الحكم.

إنّ جاذبية هذا الاتجاه المعرفيّ، ووجود معايير مقنّنة له، دفعت الكثير من عشّاق الحقيقة للانخراط في مدرسته. وقد برز منهم العديد من العلماء المحقّقين في هذا الميدان -كصدر المتألّهين الشيرازي والإمام الخميني والعلّامة الطباطبائي وآخرين غيرهم- جمعوا بين الفقاهة والعقل والاتّجاه العرفانيّ الشهوديّ، فكانوا منارات على هذا الصعيد يستضيء بنور نتاجهم الكثيرون من محبّي الحقيقة.


1- لاحظ: التمهيد في شرح قواعد التوحيد، ص590، تصحيح وتعليق الشيخ حسن الرمضاني؛ والعرفان النظري، مبادئه وأصوله، ص90-93.
2- لاحظ: التمهيد في شرح قواعد التوحيد، ص589.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع