صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين آخر الكلام | الضيفُ السعيد الافتتاحية| الأمـومـــة... العمل الأرقى  الشيخ البهائيّ مهندسٌ مبدعٌ في العبادةِ... جمالٌ مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص

العرفان السياسي‏ محاولة تأصيل نظري‏

د. الشيخ محمد شقير


هل يمكن الحديث عن عرفان سياسي؟ وهل يمكن الجمع بين مقولتي العرفان والسياسة؟ وهل يمكن تقسيم العرفان على أساس من تلك الميادين التي يشملها الاجتماعي الإنساني؟ إن العديد من الأسئلة تترتب على هذا الطرح (العرفان السياسي)، وخصوصاً عندما نقود هذا البحث إلى أطروحة ولاية الفقيه ليسأل أنه كون الولاية للفقيه هل يعني أن الفقاهة بمعناها الحاصل هي تمام الموضوع الذي يترتب عليه منح الولاية؟ أم أن الفقاهة تمثل إحدى حيثيات الموضوع الذي تكتنفه حيثيات أخرى، وما هي حقيقة هذه الحيثيات؟ قبل الدخول في معالجة تلك الأسئلة لا بد من أن نقف بداية عند تعريف العرفان وموضوعه وهدفه ليصبح واضحاً لنا علاج تلك المواضيع.

* معنى العرفان وهدفه‏
إن العرفان هو العلم باللَّه تعالى من حيث أسماؤه وصفاته ومظاهره وحقائق عالم الوجود من حيث رجوعها إليه تعالى(1)؛ أي إن العارف لا يميل بنظره عن حقائق عالم الوجود، ولا ينظر إلى مفردة وجودية دون أخرى، ولا يعتبر أن بعض مظاهر الوجود هي خارج دائرة نظره، سوى أن ينظر إلى كل تلك المظاهر والمفردات الوجودية من حيثية رجوعها إلى اللَّه تعالى، أي باعتبار كونها وجودات تحكي صفات اللَّه وتظهر عظمته ورحمته... وبالتالي فإن موضوع علم العرفان هو اللَّه تعالى وأسمائه وصفاته وجميع حقائق عالم الوجود، لكن مع أخذ هذا القيد ألا وهو من حيث رجوعها إلى اللَّه تعالى... أ

ما هدف العرفان فهو معرفة الذات الأحدية وصفاتها وأسمائها ومظاهرها من أجل الوصول إلى اللَّه تعالى، أي أن ما يهدف إليه العرفان هو السير والسلوك إلى اللَّه تعالى للوصول إليه جلّ وعلا.

* العرفان والسياسة
أما فيما يرتبط بالجمع ما بين مقولتي العرفان والسياسة فينبغي القول إن العرفان وإن كان يعنى بالوحدة فيما السياسة تعنى بالكثرة، والعرفان يعنى بحقائق الوجود من حيث رجوعها إلى اللَّه تعالى فيما السياسة تعنى بالإجتماع السياسي ووظائفه وآلياته... لكن بما أن العرفان يستوعب جميع مظاهر الوجود والاجتماع السياسي هو أحد تلك المظاهر فإن النتيجة هي إمكانية دخول الاجتماع السياسي في دائرة العرفان، لكن شرط أن تؤخذ في تلك النظرة، إلى ذلك الاجتماع، ما أشرنا إليه آنفاً من ذلك القيد، أي: رجوعه إلى اللَّه تعالى.

وعليه فإن الإنسان في سلوكه السياسي يمكن أن يكون مظهراً من تلك المظاهر التي تسهم في الوصول إلى اللَّه تعالى والحكاية عن صفاته، والدلالة على أسمائه. ويمكن لنا أن نتلمس في جملة من الروايات ما يشير إلى هذا المعنى، حيث أن وصول الإنسان إلى السلطة سوف يسهم في كشف ما تنطوي عليه نفسه من مناقب أو مثالب، من صفات حسنة أو سيئة؛ وعلى ذلك فإن ذلك الإنسان الذي وصل إلى مرتبة من مراتب الكمال الإنساني فإن توليه شأن الدولة والسياسة سوف يؤدي إلى إظهار مناقبه وتبيان فضائله، أي تلك الكمالات التي يمكن أن ننظر إليها بناءً على تلك النظرة الحيثية، ويمكن أن تسهم بلحاظ كونها كمالاً في دفع الإنسان أكثر للسير والسلوك إلى اللَّه تعالى ولا يخفى أن الإنسان كلما تكامل في سيره وسلوكه كلما ظهرت تلك الكمالات أكثر إذا ما تصدى إلى شؤون السلطة والسياسة وكلما كان ذلك أدعى لدفع الناس للسير والسلوك إلى اللَّه تعالى.

يقول الإمام علي عليه السلام: "دولة الكريم تظهر مناقبه"(2)، حيث أن لهذه المناقب شأن الظهور، كما لها شأن الحكاية وما لهذا الشأن من دور في الإيصال إلى اللَّه تعالى. إن الأداء السياسي الذي يبتني على أساس القيم الدينية والكمالات المعنوية والمعاني الغيبية لا بد أن يتحول إلى مُظهر لتلك الكمالات والمعاني والقيم التي استمدها من علاقته باللَّه تعالى ومن سير الإنسان وسلوكه إليه وهو ما سوف يدفع أكثر باتجاه الهداية وجذب الإنسان إلى اللَّه تعالى.

* التأصيل النظري للعرفان السياسي‏
إن محاولة التأصيل النظري لفكرة العرفان السياسي وإن كانت محاولة تحمل تبريرها بحسب المباني العرفانية وأسس المنظومة العرفانية لكن المراد منها بعث الحياة المعنوية في وظائف الاجتماع السياسي ومهام الدولة وأداء السياسة. ولا يخفى أن فهم أية ظاهرة من الظواهر أو رؤية من الرؤى لا يمكن أن يتم بشكل صحيح وعميق ما لم نأخذ بعين الاعتبار المباني المعرفية والفلسفية والفكرية التي تقوم عليها تلك الظاهرة أو الرؤية، ولذلك فإن الفهم الغربي لفكرة الدولة لا يمكن أن نفصله عن المرتكزات الفلسفية والفكرية التي نُظّر على أساسها لفكرة الدولة، حتى أضحت الدولة والسياسة شأناً مفصولاً عن الحياة المعنوية والبعد الغيبي. لقد أصبحت الدولة معنى مادياً لا يقوم إلا على أساس المعايير المادية ولا يهدف إلا إلى المصالح المادية ولا يعتني إلا بالشأن الدنيوي. لقد تم فصل الدنيا عن الآخرة وعالم المادة عن عالم الغيب حتى أضحى الشأن السياسي معنى مقترناً بالعديد من المعاني السلبية والرخيصة. إن الإنسان ليس فقط في بعده الحيواني والمادي بل هو أيضاً في بعده المعنوي والروحي، وإن الدولة التي تعنى بإشباع حاجات الإنسان يجب ألا تعتني فقط ببعده المادي لأن في ذلك اختزال للإنسان في أدنى أبعاده، بل إن في تقزيم الإنسان ببعده الحيواني توهين لمكانة الإنسان ولكرامته الإنسانية.

* ولاية الفقيه والعرفان‏
إن مقولة العرفان السياسي تريد تقديم فهم للدولة وللسياسة يكون قائماً على أساس الرؤية الكونية الإسلامية للوجود والحياة، ولذا فهي تريد أن يكون عالم الغيب والمعنى والقيم حاضراً في ميدان الاجتماع السياسي، حتى لا يبقى هذا الميدان مفصولاً عن القيم والروح والأخلاق. وبالتالي ليس المراد اقحام مقولة العرفان في ميدان السياسة، بل المراد التأسيس لفعل سياسي يستهدف الإنسان في أصالته المعنوية والروحية، وعلى ما تقدم فإن ولاية الفقيه ليست مفصولة عن مقولة العرفان حيث إن صفة العدالة في بعدها العميق تلامس الفعل العرفاني لأنه ليس المراد هنا المرتبة المتدنية من العدالة بل المراد العدالة في مراتبها المتقدمة. بل عندما نرجع إلى الروايات التي تتحدث عن صفات الإمام أو الوالي أو الأمير؛ فإننا نلحظ مستوى متقدماً من الصفات من حيث علاقة الولي باللَّه تعالى وسيره إليه ومن حيث كمالاته المعنوية وهو ما قد يفهم منه أن ولاية الفقيه تستبطن ولاية العارف وليس الحديث عن ولاية الفقيه إلا من باب الإشارة إلى إحدى حيثيات الموضوع لا جميع حيثياته.


 (1) ... سيد يحيى، عرفان نظري، قم، ج،ج،م، دفتر تبليغات إسلامي، 1380ه.س، ص‏28 25.
(2) الآمدي، تصنيف غرر الحكم، ودرر الحكم، ص‏342.

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع