الشيخ نزار سعيد
* العبادة طريق الوصول
إن النظرة الإلهية لوجود هذا الإنسان في عالم الوجود هي في تكامله وسموه نحو المطلق الذي يريد أن يمثله على هذه الأرض ويكون خليفة له يحمل في عقله وفكره وسلوكه من ذلك الكمال حيث قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَة﴾ وعندما كانت فلسفة وجود الإنسان من قبل اللَّه تعالى على الأرض أن يكون خليفة فيها فقد جعل تعالى له الطريق واختار له الوسيلة التي يستطيع من خلالها الوصول لنيل شيء من ذلك الكمال فكانت العبادة هي ذلك الصراط المستقيم الذي دعى إليه الأنبياء والمرسلون وكان القرآن صريحاً في بيان أن العبادة هي الغاية التي نبحث عنها في طريق الوصول فقال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾. ولكن مفهوم العبادة لا زال خفياً عند كثير من الأشخاص الذين أدركوا شيئاً من حقيقة الوجود، ولعل أول ما يطالعك هذه المفردة العظيمة، سرعان ما يتبادر إلى ذهنك مجموعة من الشعائر والطقوس والمناجاة والتقديس وذلك ما هو إلا لضيق الأفق في فهم الحقائق الإلهية والخوص في جواهر معانيها وحقائق وجود مفرداتها. أما عندما تعود إلى مدرسة أهل البيت عليهم السلام إلى حقيقة الرؤية الدينية في الإسلام المحمدي الأصيل فترى نور هذه المدرسة وحامليها بكل أبعادها لينبعث فيك الأمل من جديد لفهم تلك الحقائق المنشودة عند أهل العقل والتدبّر.
* تعريف العبادة عند القائد دام ظله:
عندما تقف على مدرسة الإمام القائد الخامنئي دام ظله لتبحث في العبادة ومعانيها تجده يعطي اللَّون المتميز الذي لا تجده عند كثيرين فيقول دام ظله: إن الاطّلاع الواعي على المعاني الواسعة للعبودية في مصطلح القرآن الكريم والحديث يوضح هذا التصور. فالعبادة في اصطلاح القرآن والحديث عبارة عن الطاعة والتسليم والانقياد المطلق للأمر والقانون والنظام الذي يوجه للإنسان من أي مقام أو قدرة(1). لذلك كانت العبادة عنده منحصرة باللَّه تعالى دون سواه وإن أي طاعة لأي قوانين وأوامر ليست صادرة من جنب اللَّه تعالى فإنها حالة شرك وعبادة لغيره تعالى حتى لو كانت ممزوجة بشيء من أوامر الشريعة المقدسة فيقول: "إن الاعتراف بأن العبودية منحصرة باللَّه فقط هو أحد أهم الأصول الفكرية والعملية في الإسلام وفي جميع الأديان السماوية، والذي يعبَّر عنه ب"انحصار الألوهية باللَّه" أن اللَّه فقط هو الذي ينبغي أن يكون معبوداً، وأن لا يعبد أحد سوى اللَّه"(2).
لذلك أخذت العبادة في مفهوم الإمام القائد قداسة خاصة بما تحمل من شمولية لكل أبعاد حياة الإنسان في عالم الدنيا باعتبارها الطريق لذلك الهدف الذي يعبَّر عنه بأنه هو رفعة الإنسان وتكامله اللامتناهي، والعودة إلى اللَّه، وبروز الخصال الحسنة فيه وتفجير طاقات الإنسان وقابلياته الكامنة، وتوظيفها بأجمعها في طريق إصلاح النفس والعالم والإنسانية.
* العبادة في حياة الإمام الخامنئي دام ظله:
- ثقافة وتربية
مع هذا المعنى للعبادة الذي يخرجها من صومعتها الفردية للتحول إلى فاكهة حياة تعطي العالم طعماً وفلسفة جديدة تصبح فيها الدنيا ذات معنى مقدّس عند الإنسان لذلك تحولت العبادة في ثقافة وتربية الإمام القائد دام ظله إلى مسلك انطلق من خلاله منذ نعومة أظافره ليصبح سالكاً يضىء درب الأمة ويقودها إلى تحقيق كمالاتها في كل جوانب هذه الحياة وليخرج الأمة من الظلمات المادية الطاغية في عصرنا إلى نور الإسلام المحمدي الأصيل، كيف لا وهو الذي أكبّ من الصِّغَر على تربية نفسه وتهذيبها من خلال هذه العبادات التي تحمل المعاني القدسية للحياة البشرية وكان يبحث عنها منذ ذلك الزمن فيقول: "اذكر جيداً أننا كنا نتجه مع أمنا التي كانت مولعة بالدعاء، والقيام بالأعمال المستحبة إلى زاوية في ساحة الدار الصغيرة ونجلس هناك رعاية لاستحباب الإصحار بالدعاء والانكشاف أمام السماء... وكنا نستغرق ساعات وساعات في أداء أعمال عرفة التي كانت تتضمن الذكر والدعاء"(3). وما هذا الاستغراق من قبل الإمام القائد في الذكر والدعاء لمجرد كونهما من الطقوس والشعائر فقط إنما كان هذا الاستغراق نتيجة الوعي الحاذق، والفهم الواعي منه لحقائق تلك الشعائر وما يجب أن تشكل في حياة الفرد والأمة فيقول دام ظله: "إننا لم نكن نشعر بالتعب وإن السبب يعود في ذلك إلى إلتفاتنا لمعاني ومضامين الدعاء والصلاة، ولو عاش شبابنا اليوم ذلك لذاقوا طعم حلاوة الدعاء والصلاة ولما شكوا التعب والملل أبداً"(4).
- شعور وتسليم
فالعبادة عنده تنشأ من الشعور والوعي للخلق والوجود ومبدئهما فيقول: "تحدّث القرآن الكريم عن الايجاد والنشأة التكوينية للإنسان وربط بين مبدأ الخلق والإبداع والتكوين من جهة وبين العبودية والخضوع للَّه من جهة أخرى لحقيقتين مترابطتين لا تنفك إحداهما عن الأخرى". هذا أولاً أما ثانياً فيرى أنها نتيجة شعور الإنسان بأنه مملوك للَّه عزَّ وجلَّ لذلك يعبِّر دام ظله عن هذا المعنى بقوله: "فالإنسان مملوك لخالقه لا يملك من هذا الوجود ولا من نفسه شيئاً وهو يتصرف بنفسه وبالكون وبالأرض والملك والثروة وكل وسائل الحياة بتخويل من اللَّه سبحانه، فيجب عليه أن يخضع لمشيئة اللَّه ويمارس الحياة وفقها ليكون بهذا الالتزام عبداً للَّه". ويستدل دام ظله بآياتٍ من القرآن الكريم.
أما ثالثاً: فيرى حفظه اللَّه أن شعور الإنسان بقدرة اللَّه عزَّ وجلَّ عليه وقهره له بتحمله يخضع لعبودية اللَّه تعالى فيقول: "والحقيقة الثالثة التي توجب العبودية للَّه سبحانه هي أن اللَّه هو القاهر وأن إرادته هي النافذة ولا يستطيع أحد أن يردَّها أو يقاوم سلطانه ومشيئته". ويرى حفظه اللَّه أن مفهوم العبودية والتسليم يرتكز على أسس وقواعد نفسية وهي الحب والشوق، لذلك يقول حفظه اللَّه: "... وحب اللَّه يحتل عقل الإنسان وقلبه ويتفاعل مع عواطفه ووجدانه ويملأ روحه ومشاعره... لذا فإن هذا الحب والتعلق لا يفتأ يحركه ويدفعه نحو اللَّه ومعبوده فلا يستريح إلا بالعمل الذي يقربه منه ولا يسعى إلا لما يرضيه". والخوف والرجاء أيضاً من الأسس النفسية المحركة نحو العبادة.
* آثار وأقسام
وللعبادة آثار كما يرى حفظه اللَّه وهي التسليم العقلي والتوكل على اللَّه وتفويض الأمر إليه، والأعمال العبادية الفردية والأعمال التي يمارسها في الحياة. ويعتقد أن لها آثاراً على الصعيد الشخصي والاجتماعي فعلى الصعيد الشخصي يقول الإمام القائد دام ظله: "ومن هذه الحقيقة الكبرى العبودية التي أدرك وجودها وشاهد آثارها المتجلية في نفسه وفي عالمه ينطلق فيتخذ من المبدأ الحق، اللَّه معبوداً يأله(5) إليه وغاية يتوجه نحوها وإلهاً يدين له بالتقديس والتعظيم والحب الأوحد فتنتج من هذه الأحاسيس والتوجهات النفسية آثارٌ تكاملية وحقائق بنائية تؤدي دورها في أعماق الذات... ومن جملة الآثار النفسية التي يحدثها الاتجاه العبودي الأحدي نحو اللَّه هو إنقاذ الشخصية من التوزع والانقسام والإثنينية". وعلى الصعيد الاجتماعي فالعبودية بنظره دام ظله تنقذ الإنسان من الخضوع لإرادة الطغاة وتحرره من مشاعر الاستعلاء والتكبر، ويقوم بدوره كإنسان في أعمار الأرض وبناء المجتمع المدني، والحياة المدنية.
ويقسم العبادة إلى أنواع: عقلية، نفسية، بدنية ومالية. وهكذا تشمل العبادة بنظره حفظه اللَّه كل جوانب الحياة لتكون حركة في المجتمع وبين الناس بأمر اللَّه وطاعة لنبيه وتطبيقاً لقوانينه.
(1) رحلة في أعماق الصلاة: الإمام الخامنئي، ص28.
(2) رحلة في أعماق الصلاة: الإمام الخامنئي، ص28.
(3) السيرة والمسيرة، مركز باء للدراسات، ص17.
(4) السيرة والمسيرة، مركز باء للدراسات، ص18.
(5) أله بمعنى حَارَ، وقد اشتق منها لفظ الجلالة "اللَّه" ولفظ الإله لأنه سبحانه حارت فيه الألباب، ويأله هنا بمعنى التعبد والإقرار والخضوع.