الشيخ بلال ناصر الدين
قال اللَّه تعالى في محكم كتابه: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون﴾. العبادة هي الجانب الروحي في شخصيّة الإنسان المسلم، ولا نعني بالجانب الروحي كثرة الصلاة والصيام والتعبّد... وإن كان لكثرتها صلة وثيقة بالجانب الروحي. وإنما المقصود منها هي الصلة الداخلية للمؤمن باللَّه سبحانه وانشداده النفسي والعاطفي له سبحانه حيث الإيمان والحب والإخلاص وما يرافق هذه المعاني الثلاثة من خوف ورجاء وتواضع، وهذا المضمون الداخلي المرتبط باللَّه تعالى هو الجانب الروحي الذي يشكّل الأساس الذي يقوِّم شخصيّة المسلم وتصدر عنه عناصرها الأخرى من الإذعان باللَّه سبحانه والخوف منه والتواضع له والإخلاص من خلال العبادة الخارجية من صلاة وصيام وأذكار وخشوع...
للعبودية مقامات ومراتب أدناها العبودية التي تظهر بعد التسليم والإسلام الأكبر، ثم تترقّى هذه العبودية في مدارجها إلى أن تصل إلى مقام العبودّية(1) الذي ظهر في رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وعلي عليه السلام والأئمة المعصومين عليهم السلام: حيث قال علي عليه السلام: "أنا عبد اللَّه وأخو رسوله".
* عبادة النبي صلى الله عليه وآله
ومن المعلوم أن النبيّ صلى الله عليه وآله والأئمة المعصومين عليهم السلام كانوا أعبد الناس ومنهم تعلَّم الناس صلاة الليل والأدعية المأثورة والمناجاة والأدعية في الأوقات الشريفة والأماكن المقدسة. وإليك طرفاً من سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسنتّه وعبادته وإقباله على اللَّه تعالى في زحمة أعماله السياسية والجهادية في مكة والمدينة ونبذاً من سيرة أهل بيته عليهم السلام ومن اهتدى بهديهم عليهم السلام وسيرتهم. روي أن النبي صلى الله عليه وآله: كان لا يقوم ولا يجلس إلا على ذكر اللَّه سبحانه(2). وكان صلى الله عليه وآله يتضرع عند الدعاء حتى يكاد يسقط رداؤه. وروى الطبرسي في الاحتجاج عن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام قال: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وآله يبكي حتى يبتلُ مصلاّه من خشية اللَّه عزَّ وجلَّ".
(وفي الكافي): كان رسول اللَّه صلى الله عليه وآله يتوب (إلى اللَّه تعالى) في كل يوم سبعين مرة. (وفي المناقب): كان رسول اللَّه صلى الله عليه وآله يبكي حتى يُغشى عليه، فقيل له: (أليس قد غفر اللَّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخّر) قال صلى الله عليه وآله: "أفلا أكون عبداً شكوراً". وروى الديلمي في الارشاد: إن إبراهيم الخليل عليه السلام كان يُسمع منه في صلاته أزيز كأزيز المرجل من خوف اللَّه تعالى وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وآله كذلك. وعن الشيخ أبي الفتوح في تفسيره عن أبي سعيد الخدري قال: لما نزل قوله تعالى: ﴿اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا﴾ (الأحزاب: 41) اشتغل رسول اللَّه صلى الله عليه وآله بذكر اللَّه حتى قال الكفار أنه جُنّ"(3).
وروي في التهذيب عن الإمام الصادق عليه السلام: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وآله ينام ما شاء اللَّه فإذا استيقظ جلس ثم قلّب بصره في السماء، ثم تلا الآيات من "آل عمران" ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ...﴾ (آل عمران: 190) ثم يستنُّ ويتطّهر ثم يقوم إلى المسجد فيركع أربع ركعات على قدر قراءته... وسجوده على قدر ركوعه يركع حتى يقال متى يرفع رأسه؟ ويسجد حتى يقال متى يرفع رأسه؟ ثم يعود إلى فراشه فينام ما شاء اللَّه ثم يستيقظ فيجلس فيتلو الآيات من آل عمران ويقلبّ بصره في السماء ثم يستنُّ ويتطهر فيقوم إلى المسجد فيُوتر ويصلي الركعتين ثم يخرج إلى الصلاة".
* عبادة الأئمة عليهم السلام
وبلغ من عبادة علي عليه السلام أنه إذا توجّه إلى اللَّه تعالى توجّه بكليته وينقطع نظره عن الدنيا حتى كأنه لا يدرك الألم لأن النشاب إذا أريد إخراجه من جسده يترك حتى يصلي عليه السلام فإذا اشتغل بالصلاة وأقبل على اللَّه أخرجوا الحديد من جسده. وكان عليه السلام في حرب صفين مشتغلاً بالحرب والقتال وكان مع ذلك بين الصفين يراقب الشمس فقال له ابن عباس رضي الله عنه يا أمير المؤمنين ما هذا الفعل؟ فقال: انظر إلى الزوال حتى نصليّ فقال له ابن عباس. هل هذا وقت صلاة إن عندنا لشغلاً بالقتال عن الصلاة فقال عليه السلام: "فعلى ما نقاتلهم، إنما نقاتلهم على الصلاة".
وروى العلامة المجلسي رحمه اللَّه في البحار(4) عن أبي يعلى في المسند أنه قال عليه السلام "ما تركت صلاة الليل منذ سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وآله صلاة الليل نور، فقال ابن الكوا ولا ليلة الهرير، قال: "ولا ليلة الهرير". وروى عن الإمام الكاظم عليه السلام أن قوله تعالى: ﴿تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُود﴾ قال عليه السلام: نزل في علي أمير المؤمنين عليه السلام. وعن عروة بن الزبير قال: كنّا نتذاكر في مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه وآله أعمال أهل بدر وبيعة أهل الرضوان فقال أبو الدرداء: ألا أخبركم بأقلّ القوم مالاً وأكثرهم ورعاً واجتهاداً في العبادة؟ قالوا من: قال: علي بن أبي طالب عليه السلام رأيته في حائط بني النجار يدعو ثم انغمر في الدعاء فلم أسمع له حساً وحركة فقلت غلب عليه النوم لطول السهر، فذهبت لكي أوقظه لصلاة الفجر فأتيتُه فإذا هو كالخشبة الملقاة فلم يتحرّك فقلت إنا للَّه وإنا إليه راجعون مات علي بن أبي طالب عليه السلام. فأتيتُ منزله مبادراً أنعاه إليهم فقالت فاطمة عليها السلام يا أبا الدرداء ما كان من شأنه وقصتّه. فأخبرتها الخبر فقالت: "هي واللَّه يا أبا الدرداء الخشية التي تأخذه من خشية اللَّه"، ثم أتوه بماء فنضحوا على وجهه فأفاق، ونظر إليّ وأنا أبكي فقال: مم بكاؤك يا أبا الدرداء؟ فقلت: مما أراه تنزله بنفسك فقال عليه السلام: "كيف بك إذا رأيتني أدعى إلى الحساب وأيقن أهل الجرائم بالعذاب، واحتوشتني ملائكة غلاظ شداد وزبانية فظاظ فوقفت بين يدي الملك الجبار وأسلمتني الأحباب، ورفضني أهل الدنيا لكنت أشدّ رحمة بي بين يدي من لا تخفى عليه خافية"(5).
وهكذا حال باقي الأئمة عليهم السلام من اقبالهم على اللَّه تعالى وذوبانهم أمام حضرته المقدسة حيث روي أن الإمام الباقر عليه السلام دخل على أبيه السجاد عليه السلام: فإذا هو قد بلغ من العبادة ما لم يبلغه أحد فرآه وقد اصفّر لونه من السهر ورمضت عيناه من البكاء ودبرت جبهته وانخرم أنفه من السجود وورمت ساقاه من القيام للصلاة قال أبو جعفر عليه السلام: "فلم أملك نفسي حتى رأيته بتلك الحال من البكاء فبكيتُ رحمةً له وإذا هو يفكر فالتفت إليّ هنيهة وقال عليه السلام: يا بني أعطني بعض تلك الصحف التي فيها عبادة علي بن أبي طالب عليه السلام فأعطيته فقرأ فيها شيئاً يسيراً ثم تركها من يده وقال: من يقدر على عبادة علي بن أبي طالب" عليه السلام. وكان كل أئمتنا عليهم السلام إذا أرادوا الوضوء يصفرُّ لونهم فيقول لهم أهلهم ومن حضر ما هذا الذي يغشاكم فيقول قائلهم عليه السلام "أتدرون لمن أتأهب للقيام بين يديه"(6).
لذا يجب علينا جميعاً أن ننظر إلى هذه المدرسة الربانية الحكيمة التي كان الأئمة عليهم السلام بعد مراجعة عباداتهم وأفعالهم يستوحشون من الدنيا وزهرتها ويأنسون بالليل ووحشته ويطيلون الفكرة ويغزرون الدمعة كل ذلك لأنهم عباد للَّه تعالى حقيقة فما أحوج مجتمعاتنا الإسلامية إلى العمل على طبق مدرسة العرفان الكامل لأهل البيت عليهم السلام وإحيائها بالعبادة والعمل لا بالكلام والمصطلحات فنحيَّ حياة طيبة كما حيوا ونسلِّم أرواحنا بطمأنينة كبرى إن شاء اللَّه تعالى ونردّد قول علي عليه السلام وهو يخاطب اللَّه تعالى في مناجاته .... "إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك حتى تخرق أبصار القلوب حُجب النور فتصل إلى معدن العظمة وتصير أرواحنا معلقة بعزّ قدسك...".
(1) البحار، ج19، ص314، حديث 611، باب 10.
(2) سنن النبي صلى الله عليه وآله، ص356، عن المناقب ومجمع البيان.
(3) سنن النبي صلى الله عليه وآله، ص34.
(4) البحار، ج41، ص17.
(5) التهذيب، ج2، ص334.
(6) كشف الغمة، ج2، ص297.