آية الله ناصر مكارم الشيرازي
ما زال الحديث عن المسؤوليات التي ينبغي أن يقوم بها كلّ من المدير أو القائد. ذكر آية الله الشيرازي ثلاث مسؤوليات في الأعداد السابقة وهي اتخاذ القرار، التخطيط، التنظيم.
4- خلق الانسجام والتنسيق
من الوظائف المهمّة للمدير دوره في إيجاد حال الانسجام بين وحدات العمل ففي الوقت الذي يجب أن يحفظ ارتباطه مع عناصره (سواء بطريق مباشر أو غير مباشر) عليه أن لا ينسى دور التنسيق. مجرد الكلام الجيد لا يضمن النجاح أبداً، بل التركيب الصحيح والمنسجم هو الناجح دوماً.
ولأجل الاطلاع على أهمية هذا الموضوع نعود إلى (السير الأنفسي) ونلقي نظرة على أجهزتنا البدنية: فذلك الانسجام ما بين أعضاء البدن عجيبُ حقاً فعندما نؤدّي عملاً بسيطاً أو معقداً فإنّ الجهاز الذي أودعه الله في دماغنا يقوم بشكل تلقائي بتحقيق الانسجام اللازم بين الأعضاء. فعند حدوث حريق يلزم فيه أن نتحرك لإطفائه وإذا لم يمكنّا أن نبتعد عن محل الحادثة وكان الوضع صعباً جداً بحيث يتطلب عملاً عضلياً قوياً، في مثل هذه الحال يرتفع خفقان القلب وتسرع عملية التنفس ويجري الدم في العروق بقوة ليصل إلى العضلات والخلايا ليوصل الغذاء الضروري، ويحصل الدماغ على كمية إضافية من الدم ليسرّع من العمل، وحتّى إذا كان الإنسان جائعاً أو عطشاناً ففي تلك اللحظات ينسى جوعه وعطشه كلياً حتّى ينصرف فكره وقواه الجسمية للعمل.
كان هذا نموذجاً مصغراً في أجهزة بدن الإنسان، وإذا دقّقنا النظر في عمل كلّ واحد من تلك الأجهزة نرى الارتباط والانسجام العجيب بحيث لا يمكن تصوّر أفضل منه. ونحن يمكن أن نستدل بصورة واضحة من هذه الأمور على التوحيد وإثبات وجود الله وعلمه وحكمته وقدرته والقرآن الكريم زاخر بمثل هذه الإشارات.
وكلما اتسع التنظيم وتعقّد أصبحت مسألة الانسجام أشدّ حساسية حتّى يصل الأمر بالإنسان إلى درجة لا يستطيع بعدها الاعتماد على الوسائل العادية، ويحتاج إلى استخدام الوسائل التقنية العالية، كما نشاهد اليوم في المؤسّسات الصناعية والإدارية المتشعّبة من ضرورة وجود الكمبيوتر لأجل تحقيق انسجام أفضل.
إذا رجعنا إلى تاريخ الإسلام نجد أنّ عدم الانسجام الذي حدث في معركة أحد كان سبباً في الهزيمة المفجعة للمسلمين وسقوط أكثر من 70 شهيداً على رأسهم "حمزة بن عبد المطلب سيد الشهداء" وذلك عندما لم ينسق رماة السهام تحت إمرة "عبد الله بن جبير" مع باقي الجيش.
وذكر هذه النقطة ضرورة فلا ينبغي أن يصل الأمر بالقادة والمدراء في الارتباط مع الأفراد والعناصر إلى درجة "الاستبداد والقيمومة" ولا يعني هذا نسيان "أصول الانضباط" وسلسلة المراتب "والقاطعية" بل يجب الجمع بين الانضباط والأخوّة، وهذا من الأمور الدقيقة جداً ولا يحقّقه سوى وجود المهارة والإبداع في شخصية المدير والقائد.
5- إيجاد الدافع
الوظيفة الخامسة الملقاة على عاتق كلّ مدير في أيّ مؤسّسة، أو قائد في أيّ تنظيم هي مسألة إيجاد الدافع والرغبة في العمل وذلك على أساس تعبئة كافة القوى الكامنة في روح الإنسان وتحريكها. وبحمد الله فإنّ إيجاد الدافع في التنظيم الإسلامي الذي تحكمه ثقافة "الإيمان بالله" ويشكل الأفراد المؤمنن أعضاءه وعناصره، إيجاد الدافع فيه لا يعد مشكل. إضافة إلى وجود المنابع العظيمة لأجل الاستفادة في هذا المجال.
وتوضيحه: أنّه لا يوجد أيّ إنسان يتحرّك لأداء عمل ما بدون الدافع، وهذا الدافع –خلافاً للدوافع الغريزية الحاكمة على الحيوانات - يجب أن يكون من الإدراك والفهم والشعور. يمكن تشبيه الدافع بوقود المحرّك مع فارق أن تأثيره إجباري ولكن دافع الأفعال الإنسانية اختياري.
وبالنسبة لكيفية ارتباط الدوافع بالثقافة الحاكمة على المجمتع نجد أنّه كلّما كانت الثقافة غنية كانت الدوافع أقوى.
هذه الدوافع يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام:
أ- الدوافع الموهومة.
ب- الدوافع المادية.
ج- الدوافع المعنوية.
في القسم الأول يمكن أن نجد مجموعة من الخيالات والوهميات والخرافات والألفاظ الفارغة تحرك مجتمعاً ما، كما حدث في المجتمعات الوثنية.
فهناك كان للاعتقاد بقداسة الأصنام ودخالتها في حل المشكلات والشفاعة وأنّها وسيلة للتقرب إلى الله، كان لها دورٌ في إيجاد حركة في المجتمع.
ولكن عندما وصل الأمر إلى ذلك اليوم الذي لم تقدر تلك الأصنام أن تدافع عن نفسها فضلاً عن عبّادها: ﴿فرجعوا إلى أنفسهم وقالوا أنّكم أنتم الظالمون﴾. استيقظت ضمائرهم النائمة وضحكوا من تلك الخيالات الفارغة. وحكموا على أنفسهم بالظلم!
وهكذا فإنّ تلك الدوافع الموهومة محدودةٌ ومؤقتة وفاقدة لأيّ شكل من العمق والأصالة، فبمجرد أن يظهر أدنى علم واطلاع تسقط لأنّها لا تنبع إلاّ من الجهل والتعصّب.
أمّا الدوافع المادية فإنّها من حيث نشوؤها من واقعية عينية أكثر تأثيراً وأوسع ولكنها ليست عميقة إطلاقاً.
وهكذا نجد أنّ قلّة من الجنود حاضرون أن يبذلوا مهجهم وأنفسهم لأجل الامتيازات المالية والإغراءات الدنيوية والمناصب التي هي أيضاً جزء من الدنيا. حتّى أنّهم إذا ما وقعوا في الحرب فإنّ أوّل ما يفكرون به الهروب ولهذا ففي حرب فيتنام كان الجنود والضباط الأمريكيون يتساءلون دوماً أنّهم لماذا يحاربون؟ وما هي مصلحتنا في هذه المنطقة من العالم حتّى ندفع مقابلها أرواحنا وأجسادنا؟
مختصر الكلام أن الاستعداد لأجل الإيثار والتضحية وهذا ما يحتاجه كلّ مدير وقائد مقابل الحوادث المهمّة يتطلب دوافع فوق المادة، لأنّ هذه الأمور في اللحظات الحساسة والمصيرية تصبح هباءً منثوراً.
أمّا الدوافع المعنوية التي تنبع من روح الإيمان بالله والقيم الإلهية السامية، وتنتهي إلى المعاد والحياة الخالدة بعد الموت في ظل الرحمة الإلهية اللامتناهية فإنّها أقوى وأعمق الدوافع التي لها تأثير لا نظير له.
وهنا يأتي الحديث عن التجارة مع الله:
﴿إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنة، يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم وذلك هو الفوز العظيم﴾. (التوبة:111).
والتأمل والسير في هذه الآية يشعل بركاناً في أعماق المؤمنين لينهضوا في سبيل هذه التجارة العظيمة والمربحة بقوة الإيمان.
أو كما جاء في سورة "الصف" الآيات 10-14:
﴿يا أيها الذين آمنوا هل أدلّكم على تجارة تنجيكم من عذابٍ أليم * تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون * يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكنَ طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم * وأخرى تحبونها نصرٌ من الله وفتح قريب وبشّر المؤمنين﴾.
ولإيجاد الدافع والشوق في الإدارة والقيادة في المجتمع الإسلامي ينبغي الاستمداد من الثقافة الغنية للإسلام، وتنميتها بطرق مختلفة، وكمثال نذكر الطرق التالية:
1- الاستفادة قدر الإمكان من الآيات القرآنية المناسبة بالتحليل والتفسير الواضح لأجل رفع مستوى الثقافة والأخلاق.
2- الاستفادة من المتون الأصيلة لأئمة الإسلام العظام وخاصّة أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخطب نهج البلاغة وأدعية الصحيفة السجادية حيث يمكن أخذ الكثير من النصوص في الفروع المختلفة للإدارة والقيادة.
3-تحليل مرحلة حكومة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والحوادث التاريخية في غزواته وكذلك الحروب التي خاضها أمير المؤمنين وأصحابه، اكتشاف جذور فاجعة كربلاء الدموية ودقائقها التي نجد لها الكثير من أوجه الشبه في عصرنا الحالي. وبشكل عام الاستفادة من سنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وسيرة الأئمة الطاهرين عليهم السلام وعظماء الإسلام.
4-الاستفادة من الأدعية والمناجاة العظيمة لأئمة الهدى عليهم السلام التي تزخر بالمعاني حيث إنّ كلّ جملة فيها تعد دافعاً عظيماً كالأدعية التالية: كميل، الندبة، الصباح وأدعية الصحيفة السجادية، ودعاء عرفة وأبي حمزة الثمالي التي تنور الأرواح فتجعلها مستعدّة لكلّ أشكال التضحية، ويجب الانتباه إلى ضرورة عدم الاستغراق بحيث تؤدّي إلى التعب والملل.
5-التعاليم الدينية لأجل تثبيت أركان الإيمان والاعتقاد بالله والمعاد، والحياة الآخرة.
6-نشر الكتب المهمة (بدون تكرار) العامّة أو الخاصّة بالتنظيم لأجل استمرارية الحماسة، وتأسيسُ المكتبات حتّى ولو كانت صغيرة وخاصّة في المجال الإداري لأجل التسريع من العمل.
7- تقدير العاملين السابقين وإجلال الشهداء وعوائلهم وتقدير أتعاب المضحين.
ولكن يجب أن لا نقع في شبهة عدم أخذِ المسائل والدوافع المادية المعقولة بعين الاعتبار عند الاستفادة من الدوافع المعنوية لأنّ الإنسان يتألف من جسم وروح – وإن كان ركنه الأصلي هو الروح - .
فهذا نبيُّ الإسلام العظيم يؤكد كثيراً على إخلاص النية عند المجاهدين في ميدان الحرب ويحذرهم من أيّ هدف غير الله والجهاد في سبيله، ومن جانب آخر يخصّصهم بقسمة من الغنائم والعطايا المادية. والأكبر من ذلك أنّ الله تعالى يعد المؤمنين بالعطايا المعنوية مثل ﴿أحياء عند ربهم يرزقون﴾ ﴿ورضوان من الله أكبر﴾ ومن جانب فلهم ﴿جنات تجري من تحتها الأنهار﴾ وأمثالها. فبهذه الطريقة وعبر هذه الوعود الصادقة تعبّأ كل قوى الإنسان الكامنة.
وفي بحث التشجيع أو الثواب والعقاب سوف نعرض سلسلة من القضايا المهمّة أيضاً. وإنّما كان هذا مجموعة من الكليات، يضاف إليها ما يمكن أن يقدمه المدير أو القائد من خلال ابتكاراته بالنظر إلى الظروف والأحوال المحيطة ومستوى الأفراد والعناصر. وبهذه الطريقة يضمن أهم عوامل النصر والنجاح..