الشيخ حاتم إسماعيل
إن من أهم غايات بعثة الأنبياء عليهم السلام في تاريخ الإنسانية، توجيه الناس إلى ما يُصلحهم سواء على مستوى الفرد، أو على مستوى الجماعة، لتتحقق خلافة الإنسان للَّه تعالى في هذه الأرض، وتصير الإنسانية وحدة متكاملة تنتشر في عمارة الأرض وبث سبل الأمن والسلام فيها.
إلاَّ أن هذه الغاية السامية لا تتحقق بمجرد قرار رسمي يتخذه الفرد أو الجماعة الإنسانية، ذلك أن أية ظاهرة اجتماعية يتوقف تحققها على تفاعل الجماعة بأسرها في ما بينها، مما يؤدي إلى انتشار الظاهرة وصيرورتها جزءاً من الذات الجماعية، والوجدان العام، هذا من جهة. ومن جهة أخرى؛ إن النفس الإنسانية مفطورة على شهوات وغرائز، ربما تقف حائلاً أمام تحقيق هذه الغاية، نظراً للمعارضة الظاهرية بين مقتضيات المصلحة الشخصية التي تنطوي عليها النفس، وبين مقتضيات المصلحة العامة، المؤدية إلى انتظام حياة النوع الإنساني كله، مما ينعكس إيجاباً على النفس والشخصية من خلاله، لو كانت الظاهرة تسير وفق النظام الإلهي.
* أبعاد خدمة الناس:
إن خدمة الناس، وقضاء حاجاتهم، والسهر على شؤونهم، من أهم العوامل المؤثرة في تحقيق غايات الأنبياء عليهم السلام ووضعها موضع التنفيذ، وهي في نفس الوقت من أجلِّ مظاهر التعارض المذكور، لأنها تتضمن كثيراً من نكران الذات، والذوبان في الذات العامة. ولهذا كانت بحاجة إلى مجاهدة النفس، وإلى قهرها باستمرار، لتصير الخدمة العامة ملَكَة ذات قيمة أخلاقية في حياة الإنسان. وهذا يعني أن العمل على خدمة الناس، وقضاء حاجاتهم، لا يخلو من بعدين تكامليين، لا بد منهما في سلم التكامل الإنساني بحيث يصير بهما الإنسان إنساناً:
أحدهما: تهذيب النفس والارتقاء بها إلى عالم الملكوت، بحيث يصير المرء فانياً في مجتمعه، ويغدو العمل الاجتماعي جزءاً من ذاته وشخصيته، على نحو يجعله يشعر بالوحشة إن هو تخلى عنه. (وهذا من أصعب الأمور). ولهذا نرى كثيراً ممن يتولون أمور الناس يجعلون ولايتهم هذه مطيَّة لمصالحهم وأهوائهم الشخصية لأنهم لم يرّبوا أنفسهم وفق ما يقتضيه القانون الإلهي الصحيح، فنرى كثيراً من الخيانة والفساد في الأرض. وبهذا يمكن أن نفهم ما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام حيث يقول: "أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة، لأنهم في الآخرة ترجح لهم الحسنات فيجودون بها على أهل المعاصي"(1).
حيث أن الشخصية التي يصير المعروف جزءاً من مقوماتها وخصائصها، لا تعود تشعر بإشباع رغباتها إلا بذلك، بمعنى أن رغباتها وغرائزها تنقلب من كونها ذات طابع شخصاني، إلى الطابع الاجتماعي العام، وتصير متخلقة بأخلاق اللَّه تعالى، كما ورد في الحديث الشريف. إلا أن ذلك يحتاج إلى مثابرة ومتابعة ومراقبة، لكي لا يبقى أي منفذ للشيطان الذي يحاول أن يتسلل إلى ذات المرء بشتى السبل والوسائل لعله ينكصه على عقبيه، ومن أهم وسائله تحريك الأهواء والمصالح الشخصية للإنسان. كما أنه يحتاج إلى التوفيق الإلهي، فليس كل إنسان قادراً على هذه المهمة الشريفة، وهو ما يبتلى به من يتصدى لأمور الناس دون مجاهدة نفسه، كما أشرنا إليه.
وقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: "رأيت المعروف كاسمه، وليس شيء أفضل من المعروف إلا ثوابه، وذلك يراد منه، وليس كل من يحب أن يصنع المعروف يصنعه، وليس كل من يرغب فيه يقدر عليه، ولا كل من يقدر عليه يؤذن له فيه، فإذا اجتمعت الرغبة والقدرة والإذن، فهنالك تمت السعادة للطالب والمطلوب منه"(2). والبعد الآخر: انتظام حياة الجماعة الإنسانية، بحيث ينعكس على مجمل شؤونهم وأحوالهم، سعادة ورفاها، وطمأنينة وراحة، كما يدل عليه الحديث المتقدم، وتتحقق الخلافة الكبرى، إذ يقوم الناس بالقسط فتخرج الأرض كنوزها، وتنزل السماء بركاتها، ﴿وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا﴾، ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾، إلى غير ذلك من الآيات الكريمة، والأحاديث النبوية الشريفة، كقوله صلى الله عليه وآله: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد...".
* عموم الخدمة:
أنه على الرغم من وجود الكثير من الأحاديث الواردة عن أهل البيت عليهم السلام والتي تؤكد على خدمة المؤمنين، وفضلها وثوابها، إلاَّ أنه قد وردت روايات أخرى أيضاً تحث على خدمة جميع الناس وإن في ذلك أجراً، لما في ذلك من استقامة أمر الجماعة، وحصول الملكات الفاضلة لدى الفرد، فقد ورد عن الإمام الرضا عليه السلام أنه قال: "قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله اصطنع الخير إلى من هو أهله، وإلى من ليس هو من أهله، فإن لم تصب من هو أهله فأنت أهله"(3). وعن أبي عبد اللَّه عليه السلام: "قال اللَّه عزَّ وجلَّ الخلق عيالي فأحبهم إليّ ألطفهم بهم، وأسعاهم في حوائجهم"(4). وعنه عليه السلام: سئل رسول اللَّه صلى الله عليه وآله من أحب الناس إلى اللَّه؟ قال صلى الله عليه وآله: "أنفع الناس للناس"(5).
وعنه عليه السلام: "قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله خير الناس من انتفع به الناس"(6). وعنه عليه السلام: "قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله الخلق عيال اللَّه فأحب الخلق إلى اللَّه من نفع عيال اللَّه وأدخل على أهل بيتٍ سروراً"(7). والأحاديث في هذا المعنى أكثر من أن تُحصى في مثل هذا المقام، بل لقد ورد تفسير قوله تعالى: ﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ﴾ عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال نفَّاعاً.
* آثار الخدمة:
إنه إضافة إلى الآثار الايجابية التي لا تُحصى على المستوى النفسي والتكامل الروحي، المترتبة على خدمة الناس والقيام بشؤونهم، فإن لها آثاراً جمّة تعود على الفرد في دنياه وآخرته، كما على الجماعة بأسرها، وسوف نجمل بعض هذه الآثار من خلال استعراض بعض الأحاديث الواردة عن النبي وأهل بيته صلوات اللَّه عليهم أجمعين:
1- إن بقاء النعمة مرتبطة ببذلها للناس لرفع كربهم، وقضاء حاجاتهم، والسعي في أمورهم، فعن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: "إن للَّه تعالى عباداً يختصهم بالنعم لمنافع الناس، فيقرها في أيديهم ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها منهم ثم حولها إلى غيرهم"(8).
2- إنها تقي ميتة السوء، فعن أبي عبد اللَّه الصادق عليه السلام: "قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام عليك بصنايع الخير فإنها تدفع مصارع السوء"(9).
3- إنها تورث الأمن يوم القيامة، فعن الإمام موسى الكاظم عليه السلام: "إن للَّه عباداً في الأرض يسعون في حوائج الناس هم الآمنون يوم القيامة"(10). وعن الإمام الصادق عليه السلام: "إن للَّه عباداً من خلقه يفزع العباد إليهم في حوائجهم، أولئك هم الآمنون يوم القيامة"(11).
4- بل لقد ورد أن قضاء حاجة المؤمن تعادل عبادة العمر أو أكثره، فعن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: "قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله: من قضى لأخيه المؤمن حاجة كان كمن عبد اللَّه دهراً"(12). ولقد بلغت أهمية نفع الناس أنها ارتبطت باستحقاق الدعاء للنافع وإن لم يكن مؤمناً، فعن بعض أصحابنا قال: "قلت لأبي عبد اللَّه عليه السلام إخواننا يتولون عمل الشيطان أفندعو لهم؟ فقال أبو عبد اللَّه عليه السلام هل ينفعونكم قلت لا فقال ابرؤا منهم أنا منهم بريء"(13).
ومن ناحية أخرى، فقد حث الإسلام على التجمل في الطلب، وعدم تذلل المؤمن للناس وإن كان محتاجاً، فعن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: "كان في زمن موسى عليه السلام ملك جبار قضى حاجة عبد مؤمن بشفاعة عبد صالح، فتوفي في يومٍ الملك الجبار، والعبد الصالح في بيته، فقام على الملك الناس وأغلقوا أبواب السوق لموته ثلاثة أيام وبقي ذلك العبد الصالح في بيته، وتناولت دواب الأرض من وجهه، فرآه موسى بعد ثلاث، فقال: يا رب هو عدوك وهذا وليك؟ فأوحى اللَّه إليه: يا موسى إنَّ ولييِّ سأل هذا الجبار حاجة فقضاها فكافأته عن المؤمن، وسلَّطت دواب الأرض على محاسن وجه المؤمن لسؤاله ذلك الجبار"(14).
(1) بحار الأنوار، ج74، ص410.
(2) نفسه، ص414.
(3) نفسه، ص409.
(4) نفسه، ص336.
(5) نفسه، ص339.
(6) نفسه، ج75، ص23.
(7) نفسه، ج74، ص341.
(8) نفسه، ص418.
(9) نفسه، ص408.
(10) نفسه، ص319.
(11) نفسه، ص318.
(12) نفسه، ص302.
(13) نفسه، ص287.
(14) نفسه، ص306.