الشيخ علي سليم
تعتبر مسألة تحويل القبلة من المسجد الأقصى، أو بيت المقدس إلى المسجد الحرام، أو الكعبة المشرفة من التشريعات المفصلية، والمهمة جداً في تاريخ الإسلام، والمسلمين. فبعد أن كان النبي صلى الله عليه وآله، والمسلمون يتخذون من بيت المقدس قبلة لهم طوال مدة إقامتهم في مكة المكرمة، وبعد هجرتهم إلى المدينة المنورة؛ أي بعد حوالي أربع عشرة سنة ونصف على البعثة النبوية الشريفة، يأتي الأمر الإلهي إلى النبي صلى الله عليه وآله بتحويل القبلة إلى المسجد الحرام، وهو الأمر الذي كان ينتظره، ويرتقبه بفارغ الصبر، كما يستفاد من الآية الكريمة: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾(1).
* سبب النزول:
ذكر المفسرون عدة روايات تبين سبب النزول، أهمها ما ورد في الفقيه: أن النبي صلى الله عليه وآله صلى إلى بيت المقدس ثلاث عشرة سنة بمكة وتسعة عشر شهراً بالمدينة، ثم عيَّرته اليهود، فقالوا: إنك تابع لقبلتنا، فاغتم لذلك غما شديداً. فلما كان في بعض الليل خرج يقلِّب وجهه في آفاق السماء، فلما أصبح صلّى الغداء، فلما صلّى من الظهر ركعتين، جاء جبرائيل، فقال له: ﴿قد نرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ...﴾، ثم أخذ بيد النبي، فحول وجهه إلى الكعبة، وحول من خلفه وجوههم، حتى قام الرجال مقام النساء، والنساء مقام الرجال؛ فكان أول صلاته إلى بيت المقدس، وآخرها إلى الكعبة. فبلغ الخبر مسجداً بالمدينة وقد صلّى أهله من العصر ركعتين، فحولوا نحو القبلة، فكان أول صلاتهم إلى بيت المقدس، وآخرها إلى الكعبة فسمي ذلك المسجد "مسجد القبلتين"(2). وذكر القمي في تفسيره نحوها مع فارق بسيط وهو أن النبي صلى الله عليه وآله كان في مسجد بني سالم وهو الذي سُمي بمسجد القبلتين.
* زمان التحويل:
وقد اختلف في تاريخ الواقعة، وأكثر الروايات وهو الأصح أنها كانت في رجب السنة الثانية من الهجرة الشهر السابع عشر منها(3). وربما حصل اشتباه في النقل في رواية الفقيه بين سبعة، وتسعة، أو أنه مبني على اختلاف مبدأ السنة الهجرية. فباعتبار كونه في ربيع الأول كما هو الصحيح يكون رجب الشهر السابع وباعتبار كونه في محرم يكون التاسع. وقد أثار هذا التشريع جدلاً واسعاً بين الناس، لا سيما اليهود والمشركين والمنافقين، كما تنبأت به الآيتان السابقتان لهذه الآية؛ إذ قال تعالى: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾(4). واختُلِف في الذين قالوا ذلك، فقال ابن عباس وغيره هم اليهود، وقال الحسن هم مشركو العرب.. قالوا: يا محمد رغبت عن قبلة آبائك ثم رجعت إليها؛ فلترجعن إلى دينهم. وقال ألسدي هم المنافقون.. قالوا: يا محمد.. ارجع إلى قبلتنا نتبعك ونؤمن بك أرادوا بذلك فتنته(5).
وتجدر الإشارة هنا إلى أن أهل الكتاب كانوا على علم بذلك، كما قال تعالى: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ أي علماء اليهود والنصارى ﴿لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ﴾ أي يعلمون أن تحويل القبلة إلى الكعبة حق مأمور به من ربهم، وإنما علموا ذلك لأنه كان في بشارة الأنبياء لهم أن يكون نبي من صفاته كذا وكذا، وكان في صفاته أنه يصلي إلى القبلتين(6).
سبب ارتضاء النبي صلى الله عليه وآله الكعبة قبلة للصلاة:
تعددت الآراء في ذلك:
1- عن ابن عباس لأن الكعبة كانت قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام وقبلة آبائه.
2- عن مجاهد لأن اليهود قالوا: يخالفنا محمد في ديننا ويتبع قبلتنا.
3- عن ابن زيد إن اليهود قالوا ما درى محمد أين قبلتهم حتى هديناهم.
4- وقيل كانت العرب يحبون الكعبة ويعظمونها غاية التعظيم، فكان في التوجه إليها استمالة لقلوبهم؛ ليكونوا أحرص على الصلاة إليها، وكان صلى الله عليه وآله حريصاً على استدعائهم إلى الدين.
5- ويحتمل أن يكون ارتضى ذلك لجميع هذه الوجوه إذ لا تنافي بينها(7).
* الحكمة في تحويل القبلة:
وأما الوجه في الصرف عن القبلة الأولى ففيه قولان:
أحدهما: أنه لما علم الله تعالى في ذلك من تغير المصلحة.
والآخر: أنه لما بيَّنه سبحانه بقوله: ﴿لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾(8). لأنهم كانوا بمكة، أمروا أن يتوجهوا إلى بيت المقدس؛ ليتميزوا من المشركين الذين كانوا يتوجهون إلى الكعبة فلما انتقل الرسول صلى الله عليه وآله إلى المدينة، كانت اليهود يتوجهون إلى بيت المقدس، فأمروا بالتوجه إلى الكعبة ليتميزوا منهم(9). وقال الزجَّاج إنما أمر بالصلاة إلى بيت المقدس؛ لأن مكة بيت الله الحرام كانت العرب آلفة لحجه، فأحب الله أن يمتحن القوم بغير ما ألفوه؛ ليظهر من يتبع الرسول ممن لا يتبعه(10).
وبالعودة إلى الآية محل البحث تتبين لنا منها عدَّة فوائد علمية وهي:
1- فائدة فقهية:
في وجوب التوجه إلى القبلة، فالأمر بتولية الوجه شطر المسجد الحرام توجه أولاً إلى الرسول صلى الله عليه وآله، وأهل المدينة، وثانياً إلى عموم المسلمين. "ولو اقتصر على الأول لجاز أن يظن أن ذلك قبلتهم فحسب. فبين سبحانه أنه قبلة لجميع المصلين في مشارق الأرض، ومغاربها، وعن ابن عباس أنه قال: البيت كله قبلة، وقبلة البيت الباب، والبيت قبلة أهل المسجد، والمسجد قبلة أهل الحرم، والحرم قبلة أهل الأرض كلها. وهذا موافق لما قاله أصحابنا أن الحرم قبلة من نأى عن الحرم من أهل الآفاق"(11). ووجوب الاستقبال ثابت في الصلاة الواجبة، وهو مروي عن أبي جعفر عليه السلام قال: "استقبل القبلة بوجهك، ولا تقلب وجهك عن القبلة؛ فتفسد صلاتك، فإن الله يقول لنبيه صلى الله عليه وآله في الفريضة: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾(12).
2- فائدة روحية:
في الخشوع وحضور القلب فعن أبي جعفر عليه السلام أنه قال معقباً على الآية السالفة: "واخشع ببصرك ولا ترفعه إلى السماء، وليكن حذاء وجهك في موضع سجودك"(13). كما أن للآية تأويلاً مفاده "ولِّ وجه بدنك شطر المسجد الحرام الصوري، ووجه نفسك شطر المسجد الحرام الذي هو الصدر المنشرح بالإسلام الذي فيه كعبة القلب في حال الصلاة البدنية، وفي حال الصلاة النفسية التي هي كل الأحوال"(14).
3- فائدة اجتماعية:
في وحدة المسلمين واجتماعهم بالتوجه إلى قبلتهم الواحدة "ولا شك أن التوجه إلى المعبود، واستقباله من العبد في عبوديته هو روح عبادته التي لولاها لم يكن لها حياة ولا كينونة، وتحتاج إليه العبادة في كمالها و ثباتها واستقرارها وتحققها. وقد كان الوثنيون، وعبدة الكواكب وسائر الأجسام من الإنسان، وغيره يستقبلون معبوداتهم وآلهتهم، ويتوجهون إليهم بالأبدان في أمكنة متقاربة؛ لكن دين الأنبياء، ونخص بالذكر من بينها دين الإسلام الذي يصدقها جميعاً، وضع الكعبة قبلة، وأمر باستقبالها في الصلاة التي لا يعذر فيها مسلم أينما كان من أقطار الأرض وآفاقها. ونهى عن استقبالها، واستدبارها في حالات، وندب إلى ذلك في أخرى. فحافظ على قلب الإنسان متوجهاً إلى بيت الله، وأن لا ينسى ربه في خلوته، و جلوته، وقيامه، وقعوده، ومنامه، ويقظته، ونسكه، وعبادته حتى في أخس حالاته وأرداها، فهذا بالنظر إلى الفرد.
وأما بالنظر إلى الاجتماع، فالأمر أعجب، والأثر أجلى وأوقع، فقد جمع الناس على اختلاف أزمنتهم وأمكنتهم على التوجه إلى نقطة واحدة، يمثل بذلك وحدتهم الفكرية وارتباط جامعتهم والتئام قلوبهم. وهذا ألطف روح يمكن أن تنفذ في جميع شؤون الأفراد في حياتهم المادية والمعنوية، تعطي من الاجتماع أرقاه، ومن الوحدة وأقواها، خص الله تعالى بها عبادة المسلمين وحفظ بها وحدة دينهم"(15). "فالكعبة مركز دائرة كبرى، لو نظر شخص من خارج الكرة الأرضية إلى المصلين المسلمين، لرأى دوائر متعددة بعضها داخل بعض، وتضيق بالتدريج لتصل إلى المركز الأصلي المتمثل بالكعبة. وهذه الصورة توضح محورية ومركزية بيت الله الحرام. وهذه ظاهرة متميزة في الإسلام دون سواه من الأديان"(16).
وختاماً لا بد من التأكيد على أن صرف المسلمين وجوههم عن المسجد الأقصى، وتوجههم إلى المسجد الحرام لا يفقد بيت المقدس قداسته؛ بل تبقى له مكانته، وقيمته الكبيرة في قلوبهم، وضمائرهم لا سيما في هذا الزمان الذي غدا فيه قبلة للمجاهدين، والشرفاء في شتى أنحاء العالم، وإليه تتوجه بُوصِلَةُ النهضة العالمية لصاحب العصر والزمان الإمام المهدي عجل الله فرجه، حيث سيصلي صلاة النصر، والفتح المبين بعد أن يطهّر الأرض من جور المستكبرين، ورجس الصهاينة الغاصبين، فيملؤها قسطاً وعدلاً، ويعز فيها المؤمنين المستضعفين بإذن الله رب العالمين.
(1) سورة البقرة، الآية: 144.
(2) تفسير الميزان، ج1، ص337.
(3) م.ن. ج1، ص334.
(4) سورة البقرة، الآية: 142.
(5) مجمع البيان، ج1، ص412.
(6) م.ن. ج1، ص226.
(7) م.ن.
(8) سورة البقرة، الآية: 143.
(9) مجمع البيان، ج1، ص412.
(10) م.ن. ص413.
(11) مجمع البيان، ج1، ص226.
(12) البرهان، ج1، ص346.
(13) م.ن.
(14) بيان السعادة، ج1، ص151.
(15) الميزان، ج1، ص338.
(16) الأمثل، ج1، ص362.