نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

اليهود والإفساد في الأرض‏



الشيخ علي دعموش‏


بسم الله الرحمن الرحيم‏
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على الرسول المسدد المحمود الأحمد المصطفى الأمجد حبيب إله العالمين سيدنا ونبينا وحبيب قلوبنا وشفيع ذنوبنا أبي القاسم محمد بن عبد اله وعلى آله الطيبين الطاهرين.

يقول الله سبحانه وتعالى في سورة الإسراء:  ﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا  فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً  ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا﴾ (الإسراء: 4 - 8).
المعنى الإجمالي لهذه الآيات أن الله سبحانه وتعالى أخبر وأعلم بني إسرائيل في الكتاب الذي أنزله على نبيهم وهو التوراة أنهم سيرتكبون فسادين اجتماعيين كبيرين يقود كل منهما إلى الطغيان والعدوان، وأن اله سينتقم منهم في الدنيا قبل الآخرة فيسلط عليهم بعد كل إفساد واحتلال رجالاً أشداء أولى بأس شديد يذلونهم بالقتل والأسر ويذيقونهم جزاء فسادهم واستكبارهم ويجبرونهم على دفع ثمن اعتداءاتهم واحتلالهم للأرض والمقدسات غالياً.
وف التفاصيل فإن الآيات تشير إلى أربعة أحداث هامة ترتبط ببني إسرائيل وإفسادهم في الأرض المقدسة في فلسطين.

الحدث الأول: أن بني إسرائيل سوف يفسدون في الأرض، ويعلون علواً كبيراً، وهذا هو الإفساد الأول لبني إسرائيل الذي أشارت إليه الآيات بقوله تعالى؛ ﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا﴾  وطبعاً ليس المقصود بإفسادهم هنا الإفساد بمعناه العام الذي يشمل الكفر والكذب وأكل الربا وتدبير المؤامرات وإشعال نار الحرب ونحو ذلك، فإن هذه الأمور ديدن بني إسرائيل ودينهم وجزء من حركتهم وعقليتهم في كل عصر وفي كل جيل.
وقد قال الله تعالى فيما قال عنهم: (وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا..) إلى أن يقول:  ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ (المائدة: 64). إذاً ليس المقصود بإفسادهم الإفساد العام هذا، وإنما المقصود الإفساد الخاص، وهو الحكم والسيطرة والاحتلال لأراضي الآخرين ومقدساتهم فحكمهم واحتلالهم هو الإفساد بالذات بدليل قوله تعالى: ﴿وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا﴾.

إذاً معنى قوله تعالى: ﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا﴾ أنكم يا بني إسرائيل ستحكمون مرتين وتتخذون الحكم وسيلة للفساد الكبير الذي لا يقاس به أي فساد، فستبيحون المقدسات وتنتهكون الحرمات، وتستهينون بالقيم والأخلاق، وبكل حق من حقوق الله والإنسان.

والحدث الثاني: الذي تشير إليه الآيات: هو أن عباداً لله مجاهدين أولي بأس شديد سوف يحاربون بني إسرائيل بعد فسادهم وإرهابهم واحتلالهم، فينتصرون عليهم، ويطأون بلادهم ويلاحقونهم في ديارهم جزاء على بغيهم وإرهابهم ويدخلون المسجد الأقصى في القدس فاتحين، وقد شار الله إلى ذلك بقوله: ﴿فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً﴾ والجوس خلال الديار يعني وطأها والتردد فيها بغية ملاحقة من فيها.

والحدث الثالث من الأحداث التي أشارت إليها الآيات هو: أن بني إسرائيل بعد أن يعيشوا مرارة الهزيمة والذل على أيدي المجاهدين الأشداء في المرة الأولى، ستعود الكرة والغلبة لهم على أعدائهم فبعد مدة زمنية طويلة نسبياً من محنتهم الأولى، تكثر أموالهم وأولادهم فيجهزون جيشاً كبيراً يكون أعظم م جيش أولئك العباد الأشداء، وعندما تقع المواجهة بين الطرفين من جديد يستطيع اليهود أن يتغلبوا على أعدائهم وتكون الكرة لهم في هذه المرة، فيعودون من جديد إلى الطغيان والإفساد، ويعودون من جديد إلى احتلال الأرض والمقدسات، وهذا هو الإفساد الثاني الذي أشاء إليه تعالى بقوله: ﴿ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا﴾ .
والحدث الرابع هو أن بعد أن يعود بني إسرائيل إلى الإفساد والاحتلال من جديد، يعود أولئك العباد الأشداء إلى قتالهم ومقاومتهم، وبفعل تضحياتهم وإرادتهم وعزمهم على مقاومة فساد بني إسرائيل يستطيع هؤلاء المجاهدون أن يحققوا نصراً أكيداً على اليهود فيفتكون بهم ويُذلونهم بالقتل والأسر والتشريد والتخريب والتدمير ويدخلون من جديد بالقوة إلى المسجد الأقصى في القدس كما دخلوه في المرة الأولى، وهذا ما أشار إليه تعالى بقوله:  ﴿إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا﴾ .
والذي يبدو من التدقيق في جملة﴿ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا﴾  هو أن المجاهدين في هذه المرة أي المرة الثانية يُذيقون بني إسرائيل أشدَّ ألوان الهلاكِ والدمارِ والعذاب، فهذه المرة أي المرة الأولى، لأن التتبير يعني الإهلاك والتدمير والإبادة شبه الكاملة.
هذا هو حصيلة ما تضمنته الآيات بالنسبة إلى الأحداث الهامة التي تقع بين اليهود وبين من يسخرهم الله لمعاقبتهم على إفسادهم واستكبارهم واحتلالهم للقدس والأراضي الإسلامية المقدسة.

والتدقيق في عبارات الآيات يجعلنا نستوحي منها عدة أمور ترتبط بالأحداث التي ذكرناها:
الأمر الأول: أن حصول الإفساد الأول والثاني من بني إسرائيل ثم الانتقام منهم على أيدي رجال أشداء وأولى بأس شديد، هو أمر حتمي لا خلف فيه ولا مرد له، فهو واقع حتماً وجزماً عاجلاً أم آجلاً، وهذا ما نستفيده من كثرة المؤكدات الواردة في بعض كلمات وجمل الآيات، فلاحظ قوله تعالى مثلاً (وقضينا) الذي يشير إلى حتمية صدور الإفساد من بني إسرائيل لكن لا على سبيل الإخبار بما هو حتمي الوقع بحسب ما يعلمه الله من أحوالهم وأوضاعهم وعقليتهم.
ثم أتى بكلام الابتداء ونون التوكيد في أكث من مورد فقال تعالى: (لتفسدن ولتعلن) ليأكد حصول الإفساد والاستكبار من بني إسرائيل.

ثم قال تعالى: (إذ جاء وعد) ولم يقل) وقت أو موعد ليؤكد أيضاً حصول ذلك منهم لأن الوعد يقتضي الوقوع والتحقق جزماً لأنه لا خلف للوعد، ثم ألحق ذلك بكلمة (بعثنا) ولم يقل: سنبعث ليشير بذلك إلى أن مواجهة ومقاومة فساد بني إسرائيل واحتلالهم للأرض والمقدسات أمر حاصل لا محالة. فهو يخبر عن وقوعه وحصوله كأنه واقع وحاصل، ثم عاد وأكد وقوع وحصول ذلك كله بقوله تعالى: (وكان وعداً مفعولاً) أي لا مناص منه ولا محيص عنه.

الأمر الثاني: أن المستفاد من الآيات هو: أن من سوف تجري لهم مع بني إسرائيل هذه الأحداث هم جماعة واحدة، فالذين يواجهون اليهود في المرة الثانية بعد إفسادهم الثاني هم من نفس الفئة والجماعة الذين يواجهون اليهود في المرة الأولى، بعد إفسادهم الأول، وذلك لأن الضمائر في كلمة (جاسوا، وعليهم، وليسؤوا، وليدخلوا، ودخلوه وليتبروا) الواردة في الآيات كل هذه الضمائر ترجع إلى جماعة واحدة عبر عنها بقوله تعالى: (عباداً لنا) فإنه ليس في الآيات ما يصلح مرجعاً لهذه الضمائر غير جملة (عباداً لنا).

الأمر الثالث: أن المقصود من (عباداً لنا) الذين سيواجهون اليهود وفسادهم واحتلالهم. هم قوم مؤمنون مجاهدون، لأن ذلك هو الظاهر من قوله تعالى (بعثنا) وقوله: (عباداً لنا) لأن البعث من قبل الله، والعباد له، لم يتسعملا في القرآن إلا في مقام المدح والثناء إلا ما شذ وندر.
وعلى هذا الأساس فإن المؤمنين هم من سيقفون في مواجهة طغيان اليهود واستكبارهم واحتلالهم، وسيدفعهم إيمانهم والتكليف الشرعي الإلهي إلى القيام بذلك العمل الجهادي المقاوم، وبذلك يصح أن يقال كما في الآية (بعثنا عليكم) لأن أوامر الله هي التي دفعتهم وحركتهم للقيام بمقاومة لا اليهود، فالله هو المحرك والباعث لهم للقيام بذلك.

الأمر الرابع: أنه يستفاد من هذه الآيات أيضاً: أن هؤلاء العباد والمجاهدين سوف يدخلون المسجد الأقصى في القدس مرتين، وأن دخولهم هذا سوف يكون على نحو واحد في المرتين معاً أي بالجهاد والقوة والقهر والغلبة (كما دخلوه أول مرة) وليس بالتسويات المذلة، ولا باتفاقيات ومعاهدات السلام الوهمية التي قد ترفع الاحتلال ظاهراً ولكنها تبقي عليه حقيقة وواقعاً.
وإذا كان تحرير الأرض والمقدسات ودخول القدس الشريفة لا يكون إلا بالفعل الجهادي المقاوم وبقوة السلاح وبالإرادة القوية والعزيمة الراسخة، فهذا يتطلب منا جميعاً وفي يوم القدس العالمي استعداداً فعلياً وعملياً كاملاً وعلى جميع المستويات لمواجهة هذا الاستحقاق الجهادي الكبير.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع