الإمام الخميني قدس سره من القيادات التي انطلقت في العمل
بالشأن العام من خلال التركيز على ايجاد قاعدة شعبية واسعة واعية للاطمئنان إلى
ديمومة حركته فضلاً عن الاستناد إلى ركن وثيق من خلال ثبات جمهوره معه في مواجهته
عند الصعاب. ومن الطبيعي لكونه فقيهاً ومفكراً أن يستند إلى الفكر كمحرك ومحفّز
ومثبّت على قواعد الحلال والحرام من خلال تبيان الإسلام كدين شامل وكامل معني بشأن
الآخرة وشأن الدنيا معاً، يعالج قضايا الفكر على أساس الإيمان باللَّه عزَّ وجلَّ
وحركة الإنسان طبق الأحكام الشرعية المعنية بتصحيح عباداته وسلوكه وحركته...
* الاهتمام ببناء الكوادر:
كان يدرك قدس سره أن الأمة حاضرة لحمل الإسلام بقوة على الرغم من حالة التراخي التي
تعيشها ولكن إذا أعطيت إسلام محمد بن عبد اللَّه صلى الله عليه وآله بعيداً عن
إسلام السلاطين والزعامات وعن الإسلام البعيد عن قضايا الناس وهمومهم... بعيداً عن
الإسلام الذي تروّجه أبواق السلطات طقوساً ومظاهر خادعة خالٍ من الروح المحرّكة على
أساس إنسانية الإنسان والفطرة التي فطر اللَّه الإنسان عليها... حيث الأمة تريد ما
يساهم في إخراجها من الظلمات، من الجور، من الذل والهوان فقد تعبت ووصلت إلى حد
أقرب من اليأس لعدم توفر الكادر الداعي المخلص البعيد عن المصالح الشخصية والضيقة.
حيث جربّت الكثيرين ولم ينفعها إلا القليل وإذا ما وفقت لشخصية فقبل استكمال
مشروعها كانت ترحل دون أن تجد من يكمل المسار الذي بدأته مع هذه القيادة.
من هنا
كان اهتمام الإمام الخميني قدس سره ببناء مجموعة من تلامذته لا ليكونوا معه في
حركته فحسب بل ليكملوا من بعده في إرساء الأفكار التي حملها لحفظ مجتمعه على أساس
الثورة الإسلامية بالطريقة التي تدفع المجتمع الإنساني ليحفظ نفسه من شر الطواغيت
وبالتالي لبناء الإنسان الواعي فكرياً وسياسياً من خلال إيجاد المناخ الذي يؤمِّن
له سبل الوصول لذلك، وعلى رأس الأمور المطلوبة لذلك، العمل على إقامة دولة
بمؤسساتها المختلفة والمتنوعة بحيث ينطلق الإنسان من خلال الأجواء التي تتأمن بفعل
الإمكانات الكبرى التي تسخر لذلك مع وجود دولة. فعمل قدس سره لسنوات طالت في قم حيث
انطلقت شرارة الثورة ثم في النجف الأشرف حيث كان منفى الإمام المقدس، على بناء
الكادر المطلوب الذي أبلى بلاءً حسناً مع الإمام وبعده.
وما كان هذا الكم الهائل من
رجالات الإمام ليكون في الساحة لولا الرعاية المباشرة التي أولاها قدس سره لتربية
جيل من المبلغين والعلماء ليتحملوا معه وبعده مسؤولية دولة بالكامل تشريعياً
وتنفيذياً وجهادياً فكنا نجدهم في مجلس النواب وفي مجلس الوزراء وكافة مؤسسات
الدولة وعلى رأس المجاهدين في الجبهات. نعم كان الإمام يدرك ضرورة وجود العمامة
في المحال المختلفة لكونها الضمانة الشرعية لوجود الأرضية الثقافية السليمة والبنية
الفكرية القويمة، ولما تعكس هذه العمامة من أمور وتفرض من مسائل. وإدراكه هذا دفعه
لتلوين ثقافتها وتحصيل الوعي العام من علوم السياسية والإدارة وعلم الاجتماع والنفس
وغير ذلك من المواد المهمة حيث أنها تسبح في عالم متشعب وعميق ومن أراد الخوض فيه
فعليه تعلم فنونه.
* إعداد الطلبة فقهياً وسياسياً:
يطغى على الدراسات الحوزوية عموماً جو الدراسة التقليدية من دراسة للفقه والمنطق
والأصول واللغة والحديث إضافة إلى علوم القرآن والعقائد. وهذه الدراسات كانت تتم
عادة بشكل تترك تحصيل الوعي الاجتماعي والسياسي والتربوي على عهدة الطالب وإن كان
من توجيه فكان بشكل فردي وضعيف. ومن هنا كنا نرى في السابق وجود رجالات لها أدوار
مهمة في حركة الشيعة في النجف وقم أمثال آية اللَّه الشيرازي وآية اللَّه سعيدي،
وآية اللَّه البروجردي، وآية اللَّه الشهيد الصدر، وهؤلاء بشكل عام وصلوا إلى مراتب
علمية عالية وكان لهم دور علمي غير عادي في الحوزات، ولا أقول أنهم لم يهتموا
بتوجيه وتربية طلابهم في الحوزات بل كان لهم ذلك، إلا أنه بالعودة إلى الإمام قدس
سره كان يولي هذا الجانب (أي السياسي والاجتماعي التربوي) حيزاً مهماً في حركته
العلمية بحيث كان يدخل من مباحث علم الفقه تارة أو علم الأصول تارة أخرى فضلاً عن
محاضراته في المناسبات الدينية إلى مبحث شؤون الناس والحكام ويطل إلى القضايا
المركزية في العالم الإسلامي وعلى رأسها قضية فلسطين لتأخذ حيزاً مهماً في حركته
الحوزوية، لينطلق من خلال الحوزة إلى المسلمين محذّراً ومحرّكاً ومربياً وإلى
الحكام واعظاً ومنذراً ومواجهاً...
وقد برز ذلك في جميع طلابه بشكل عام سواء في قم
أو في النجف الأشرف. وهذا أدى إلى استقطاب البارزين علمياً في الحوزات ليتشكل منهم
جمعٌ حول الإمام الخميني يستفيد من معينه ووعيه السياسي وليكونوا بالتالي أقطاباً
مهمة في مجتمعاتهم ليؤدوا دوراً في التوجيه الديني والسياسي من خلال دورهم في نزع
الشرعية عن الحاكم الجائر الظالم المرتبط بالأجنبي المستعمر. وهكذا كان فكر الإمام
الخميني قدس سره ينساب إلى قطاعات الأمة المختلفة من خلال طلابه ورجالاته الذين
أحسن إعدادهم ليطمئن إلى حسن قيادتهم للمجتمع الإسلامي الكبير الذي كان يفرّق بين
الدين والسياسة ليعيد الربط بينهما بمفهوم زرعه ذلك الإمام الكبير "ديننا عين
سياستنا وسياستنا عين ديننا" "وليحوّل بذلك المجتمع تحولاً غير عادي، واثقاً بعالم
الدين، ليكون له دور بارز في الشأن العام السياسي الاجتماعي وبذلك غيّر الإمام
الخميني النظرة إلى عالم الدين الذي كان بالنسبة للناس درويشاً معنياً بإجراء
الطقوس العادية (صلاة الجماعة) الصلاة على الميت، الزواج والطلاق... ليصبح إلى جانب
تلك الأمور ثائراً على الظالم والمحتل والمستعمر ومنظراً سياسياً يحلّل ويتابع
ويأخذ الموقف المناسب ليكون نداً قوياً في مواجهة الظالمين والطامعين المحتلين.
وعلى الرغم من رحيله بقي هذا النهج حياً في أوساط الطلبة في الحوزات لينشأ جمع جديد
إضافة إلى ما كان في الماضي وليكون بذلك طالب العلم مسؤولاً عن تحصيل احتياجات
ومتطلبات عصره ومتابعتها لأنه مسؤول طبقاً للحديث النبوي "كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن
رعيته" و"من لم يهتم بشؤون المسلمين ليس بمسلم".
* إعداد الطلبة روحياً وأخلاقياً:
ولا نقول أن الاهتمام بإنماء الروح وإيجاد الأخلاق الحميدة نشأ مع الإمام الخميني
بل كان موجوداً منذ أزمان بعيدة، لكن بشكل عام بقي في الإطار النظري عند المعظم،
وكان يتم تناول ذلك في سهرات يلقى فيها محاضرات حول التزكية وحول التربية... أخذ
الإمام ذلك وأعطاه اهتماماً أكبر من خلال اهتمامه بذلك على المستوى الشخصي في حياته
الخاصة مع عائلته ومتعلقيه وطلابه أيضاً فقرّب طلابه منه ليتعاطى معهم تعاطي الأب
وأحبهم بعد اختبارهم في مواضع شتى وكان يتعاطى معهم مراقباً وواعظاً بحيث لا يتركهم
لأنفسهم، فكان ينظر إلى طلابه على أنهم أبناء له قد يهتم بهم أكثر من أبنائه
العاديين...
والملفت للنظر أن من بين رجالات الإمام علماء كبار في السن أمثال
الشهيد دستغيب والشيخ الطبسي و... والسيد الطالقاني وآخرين ومع ذلك كانت علاقتهم به
قدس سره علاقة الابن بالأب مع كونهم من أقرانه بالسن بشكل عام. نعم إن الموضوع
الروحي والأخلاقي عند طالب العلم الذي يعتبر مشروع داعية وتبليغ وبالتالي مشروع
قيادة في المجتمع لأنه كان ملتفتاً لهذا الأمر وأهميته حيث أن تأثير طالب العلم في
مجتمعه يزداد أكثر ليصبح معلماً مهماً بالنسبة إليهم يُتَّبع من خلال رؤية التدين
عنده ومسلكه وعباداته، حيث أن الناس لا يكتفون بالدعاوى النظرية وبالكلام الذي يبقى
جامداً ما لم يخرج من القلب، ولن يخرج من القلب إلا بعد إفراغه من حب الدنيا
ومَلْئِه بحب اللَّه عزَّ وجلَّ.
* إعداد الطلبة اجتماعياً:
ومن باب التأكيد على الوعي الاجتماعي السياسي الذي كان موجوداً عنده قدس سره نلفت
إلى مسألة مهمة التفت إليها في الحوزة. حيث أنه كان ينظر إلى طالب العلوم الدينية
أنه مشروع قيادي بحسبه، لمجموعة أو لقرية أو لمدينة أو لمنطقة وبالتالي كان يهتم
ببناء وضعه الاجتماعي ودفعه باتجاه الاستقلالية المادية ليتفرغ إلى شؤون التبليغ
والقيادة الدينية والسياسية لمجموعته بعد استقلاله المادي لتأمين حاجياته
الاجتماعية وعدم وقوعه تحت أثر شخص نافذ أو جهة سياسية رسمية أو غير رسمية بسبب
الارتباط المادي، فكان يرى أن ما بيده من أموال شرعية يجب تقسيمه بحسب الأولويات
التي كان يراها فلم يكن يهتم لبناء مشاريع باسمه في الوقت الذي كان شائعاً فيه ذلك
بل كان يرى أن هذه الأموال الشرعية يجب أن تصرف فيما له دور في تقوية الدين وعلى
راس أولوياته أن يصرف لطالب العلوم الدينية ما يكفيه ويبعده عن التبعية وعن ضرورة
البحث عن عمل لتأمين متطلباته فيما لو كان بعيداً عن التبعية، وهذا كان واضحاً
وبشكل جلي في النجف الأشرف وفي قم قبل انتصار الثورة وبعدها. وبذلك دفع بمن عنده
القابلية للتطور العلمي ولأخذ مكانته الاجتماعية للتقدم وهذا ما ساهم في التفاف جمع
الأذكياء والناشطين علمياً وأصحاب الرؤى المستقبلية حوله، حيث كان ملفتاً لهم لذلك
فاستغنوا بما عنده عما في أيدي الآخرين. كان يعتبرهم بمثابة من يعمل لدى الإمام
الغائب عجل الله فرجه فيستحق بالتالي ما يقويه على المتابعة.
وهذا الأمر وضع
حداً لأصحاب الغايات من أن يعيثوا فساداً في الحوزات. ودفع الطلاب إلى التفرغ الكلي
لدراستهم وبحوثهم وتطلعاتهم السياسية.