المحور الثالث وهو الهدف المحوري لكل ما تقدم في الحلقتين
السابقتين، يتحدث عن الواجبات والآداب التي ينبغي الإلتزام بها واستلهامها من مصطلح
"صاحب الأمر" على صعيد الفرد والأمة، الأمر الذي يعني ما نحن فيه على الصعيدين
الفردي والجماعي ما يلي:
1- التنبه إلى بناء العلاقة بصاحب الأمر (أرواحنا فداه) على البعد العقائدي، وبذل
الجهد لحياطة ما أسسه العقل وعقد عليه القلب، بدفع سموم المعاصي وآفاتها عن غرسة
المعتقد الآخذة بالنمو.. ليمكنها أن تبلغ حيث تكون "الشجرة الطيبة" التي "تؤتي
أكلها كل حين بإذن ربها".
إن الترابط وثيق جداً بين الحرص على طاعة اللَّه تعالى، وبين التأسيس لعلاقة سليمة
ب"صاحب الأمر" الإلهي، وبمقدار ما تكون هذه العلاقة مبنية على أساسها العقائدي،
يتحقق عدم الفصل بين الإلتزام المبدئي لحدود اللَّه سبحانه، وبين حب الإمام المهدي
عجل الله فرجه. وبمقدار ما يضعف هذا البناء، يفتح الباب إلى الفصام النكد في بناء
الشخصية، فإذا بها من جهة تتفانى كما تظن في اللّهج باسم الإمام والحنين إليه، ومن
جهة أخرى تتجاوز حدود اللَّه تعالى ولا يرمش لها جفن. تبلغ خطورة الذنوب أنها قد
تسلب صاحبها حب اللَّه عزّ وجلّ، فبديهي أنها قد تسلبه حب ولي اللَّه الأعظم، وصي
رسول اللَّه صلى الله عليه وآله. من هنا كان كل ارتباط ب"صاحب الأمر" لا يبنى
على الأساس العقائدي، في معرض الظواهر المرضية الخطيرة التي تصل أجارنا اللَّه إلى
الانقلاب على الأعقاب.
2 - الربط تلقائياً وبصورة شديدة الوضوح والحضور بين المواسم والمراسم العبادية
وبين "صاحب الأمر" أرواحنا فداه، فقد أدبنا سبحانه وتعالى؛ أن علينا أن نربط بين
ذلك وبين رسول اللَّه صلى الله عليه وآله، فقال عز من قائل: "ولو أنهم إذ ظلموا
أنفسهم جاؤوك فاستغفروا اللَّه واستغفر لهم الرسول لوجدوا اللَّه تواباً رحيماً".
وقد جعل سبحانه طاعة رسوله دليلاً على طاعته
﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾.
كما جعل اتباع رسوله همزة الوصل بين حب العبد للَّه وحب
اللَّه تعالى له
﴿قل إن كنتم تحبون اللَّه فاتبعوني يحببكم اللَّه﴾. وفي هذا خير
دليل على أن التوحيد الحقيقي لا يكتشف إلا بطواف القلب حول رسول اللَّه صلى الله
عليه وآله، بما هو رسول اللَّه، أي أن الطواف في حقيقته حول التوحيد كما أراد
اللَّه تعالى وأمر. وقد ثبت لوصي رسول اللَّه عليه السلام ما ثبت له صلى الله عليه
وآله، إلا ما خرج بالدليل. هكذا يجب أن يكون طواف القلب التوحيدي، حول صاحب العصر
والزمان أرواحنا فداه في كل آن، وبما أن المواسم العبادية صغيرة كانت كقراءة دعاء
كميل مثلاً، أو كبيرة كشهر رجب وشعبان وشهر رمضان وموسم الحج وعاشوراء وغيرها؛
محطات متقدمة في القرب من اللَّه تعالى، فإن الخسارة كبيرة جداً، بل لا تعوّض، إذا
بُنيت على أساس إغفال العلاقة بين طاعة اللَّه تعالى وطاعة المعصوم بما هي الطريق
الحصري، أو بنيت على شطر القلب نصفين، فالنصف الذي يرى صاحبه أنه على علاقة بولي
اللَّه، غير النصف الذي يهتم بشهر رمضان أو بموسم الحج مثلاً.
أقصد بالتحديد إنَّ
من يصوم شهر رمضان كله ولا يستحضر أنه شهر الإمام صاحب الأمر، وأن ليلة القدر ليلة
الإمام، وأن العيد الحقيقي في رضا الإمام، لم يهتدِ الطريق إلى تحصيل رضا اللَّه
تعالى الذي أمر باتباع "ولاة الأمر" عموماً وصاحب الأمر خصوصاً. والمخزون الوجداني
والتربوي كبير جداً، عندما تصبح كل لحظة من لحظات الدهر وشهر رمضان خاصة على علاقة
بمن تنزّلُ الملائكة عليه في ليلة القدر بكل أمر من اللَّه تعالى، الذي جعله صاحب
أمره. وكذلك الحال بالنسبة إلى موسم الحج، حيث أن أمير الحج الحقيقي والأصيل من قبل
اللَّه تعالى هو "صاحب الأمر". إن موقع المعصوم من وصول الهداية الإلهية إلى
جميع الناس، يقتضي التنبه بجذرية إلى ارتباط المراسم والمواسم العبادية به عليه
صلوات الرحمن.
3 - الربط بين الوجود وبين سادة قافلة الوجود بإذن اللَّه تعالى.. هذه الأرض وهذه
السماء، وما فيهما، وما بينهما وما خلق اللَّه تعالى من كواكب؛ هي جميعاً للإنسان!
جعلها اللَّه مسخرات له! والمدبّراتُ أمراً.. ضمن النظام الكوني بكل عظمته.. في عمل
دائب لخدمة الإنسان! أو ليس طبيعياً جداً أن يكون بين أفراد النوع الإنساني من جعله
اللَّه تعالى المحور لهذا النظام كله، و"صاحب الأمر" الإلهي النافذ؟ يقدر اللَّه
تعالى ويقضي، ويبرم، ويتم إبلاغ ذلك إليه ليشرف على "المدبرات أمراً" بمختلف
ملاكاتهم الإدارية، لتتجلى روعة الوجود بحقيقتها التوحيدية كما أراد اللَّه تعالى؟!
إن من شأن التفاعل مع هذه الحقيقة وملامستها الدائمة لشغاف القلب، أن تصغي مسامع
القلب إلى ترانيم الحب، من كل ذرة في الوجود، وكل لحظة في الزمان... فينتظم القلب
في سلك تلامذة مدرسة جمال الباطن، وينظر بنور اللَّه تعالى فلا يرى "إلا جميلاً"
ويتمثل بقول الشاعر:
وما حب الديار شغفن قلبي |
مررت على الديار ديار ليلى |
ولكن حب من سكن الديارا |
أقبِّل ذا الجدار وذا الجدارا |
ثم يطوي عنه كشحاً، ليتمثّل بقول المولى أمير المؤمنين عليه السلام: "ما رأيت
شيئاً إلا ورأيت اللَّه قبله ومعه وبعده" ليتعلم رويداً رويداً كيف هي عين
الوحدة في الكثرة، ويؤسس لعلاقة توحيدية مع الموجودات بكل أطيافها، مبنية على الحب
باعتبارها تجليات قدرة المحبوب، وصنع اللَّه الذي أتقن كل شيء صنعاً. ولا مفتاح
إلى هذه الروعة، وكل تماهيات هذا الجمال إلا على عتبة "صاحب الأمر" شرط أن يحاول
القلب استلهام العلاقة بين الوجود وصاحبه بإذن اللَّه تعالى. وإذا كان مُلك المؤمن
في الآخرة "مُلكاً كبيراً" تحدده الروايات بأنه في بعض مراتبه أكبر من الأرض، فإن
تنصيب اللَّه تعالى النبي الأعظم صلى الله عليه وآله أو وصيه عليه السلام مديراً
للأفلاك بإذنه تعالى؛ أمر في غاية القرب... وهو بعدُ لا يهدف إلى نفع يعود على
النبي صلى الله عليه وآله أو الوصي عليه السلام بل النفع فيه للإنسانية التي أولاها
اللَّه سبحانه كل هذا التكريم.