دروس من فتاوى الحج: المرأة وحرمة تغطية الوجه في الحج (درس في العبودية)
الشيخ أحمد وهبي
* الستر من ضروريات الإسلام:
يقول تعالى:
﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا
فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ
لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا
يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ
عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ
آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ
بُعُولَتِهِنَّ...﴾
(النور: 31). لقد جاء الأمر في القرآن الكريم والسنّة الشريفة الواردة عن النبي صلى
الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام، بتستر المرأة أمام الرجال الذين لا
ينتسبون لها من ناحية النسب أو المصاهرة، بل جاء الأمر حتماً بالاحتجاب عنهم، وعدم
الاختلاط معهم لما في ذلك من تحصين أفراد المجتمع، ولكونه سداً أمام المفاسد التي
قد تطرأ نتيجة ذلك الاختلاط.
وقد أفتى العلماء بوجوب الستر على المرأة بأن تستر
مفاتن جسدها، وما يوجب افتتان الناظر إليها، حتى صارت مسألة وجوب الستر تعد من
ضروريات الدين، أي من الأمور التي تعتبر من بديهيات الدين الإسلامي، وعنواناً يتميز
به الدين، ويعرفه كل الناس العامة والخاصة من الدين الإسلامي. وفي مسألة تغطية
الوجه نجد حالتين متضادتين من ناحية الحكم في الأحكام الإلهية واحدة في الحج
والأخرى في غيره، فبينما نجد أن الحكم في تغطية الوجه في غير الحج هو إما على
الاحتياط الوجوبي في وجوب التغطية ، أو استحباب ذلك وليس هناك من يفتي بالإباحة، بل
الميل دائماً نحو التغطية لا عدمها. نجده في الحج يختلف اختلافاً كبيراً فيتحول من
الوجوب أو الاستحباب إلى الحرمة فيحرم على المرأة تغطية الوجه ببرقع ونقاب ونحوهما
حتى المروحة أو العشب وإن فعلت فعليها أن تكفر بشاة، لأن إحرام الرجال في رؤوسهم
وإحرام النساء في وجوههن.
* الأحكام تتبع المصالح:
إن من يعرف روح الأحكام المتعلقة بالمرأة وأنها تدعو دائماً إلى احتجاب المرأة من
الرجال، حتى أن الزهراء عليها السلام امتنعت عن الوقوف أمام رجل أعمى حتى لا تراه
هي وأعلنت عليها السلام أن الخير للمرأة أن لا ترى الرجال ولا يراها الرجال، وإن
المراجع للنصوص الإسلامية. يتعجب من هذا الحكم وفي مكان يتعذر فيه امتناع المرأة عن
رؤية الرجال لها، ويتعذر فيه منع الاختلاط، ولا يمكن فيه وخصوصاً في عصرنا الحاضر
ومع وجود مناسك في أوقات محددة، وفي أماكن محددة وصغيرة في غالب الأحيان مثل الطواف
حول الكعبة الشريفة والسعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمرات. فإن المناسب لروح هذه
الأحكام، والأوفق بهذه الظروف بحسب النظرة الأولى أن تؤمر المرأة بتغطية وجهها وأن
تعفى من بعض المناسك لكثرة وجود الرجال والازدحام. لكننا في هذه العبادة الجماعية
الاجتماعية الحاشدة نجد أنه يحرم على المرأة أن تغطي وجهها، ويحرم عليها ترك
المناسك مهما وصل الازدحام. هذا الأمر يدلنا على أمر هام جداً في مجال الأحكام
الإلهية، وهو أن هذه الأحكام ليست مجرد أوامر فارغة تصدر من آمر متسلط أو غير راعٍ
أو ليس لديه إرادة ورغبة جدية، وإنما يأمر هزلاً أو لمجرد إبراز السلطة. بل إن
القرآن الكريم والسنّة الشريفة إنما يعبران عن إرادة حكمية صادرة عن خالق عظيم حكيم
عليم لطيف خبير، قادر غني، مالك عليّ. وكل ما يصدر عنه إنما هو لمصالح وحكم فيها
فوائد للبشرية، وجمال وكمال لهم، لدنياهم وآخرتهم لحياتهم الجسدية والروحية،
المادية والمعنوية، وهذا هو سر إرسال الأنبياء عليهم السلام، وهذا هو الهدف من
الشرائع والقوانين التي جاؤوا ليبلغوها للناس. لذلك لو فكرنا ونظرنا واعتبرنا في كل
حكم إلهي، لوجدنا فيه من الحكم، والعبر والغايات والمصالح ما يجعلنا نعشق صاحب هذه
الأحكام وواضعها، ونشعر بحبه لنا، وعطفه علينا.
* الطقوس والعبادة:
إن الأرض تخص بأماكن العبادة على اختلاف الأديان، ويندر وجود قوم لا مكان عبادة
لديهم، والمسلمون لا يختلفون عن غيرهم، فالعبادة وأماكنها رافقت الإنسان منذ بداية
وجوده في الأرض. نجد أنه وبالأخص في عصرنا الحاضر هناك ملايين المسلمين يحضرون
المساجد، ويشاركون في المراسم العبادية، ولكننا نجد أن الإسلام لا يتحول إلى منهاج
يطبق بشكل كامل في حياتهم، بل يبقى منحصراً فقط في حدود المسجد والبرامج العبادية.
وهذا يرجع إلى عدم فهم معنى العبادة الحقيقي، وحقيقة الإسلام وقوانينه. فانحصر في
فهم هؤلاء المسلمين ببعض الأعمال التي تسمى عبادية، وهي في الحقيقة ليست إلا طقوساً
دينية فارغة، إذا دققنا النظر فيها لا نجد فرقاً بينها وبين الطقوس الدينية عند
الأديان الأخرى إلا كونها وردت في لسان الشرع الإسلامي. لذلك لا بد من التمييز بين
الطقوس والعبادة، فالطقوس والمراسم العبادية إنما هي أعمال، وحركات تبقى طقوساً
وعادات موروثة ما لم تكن محتوية على معانٍ روحية ومفاهيم معنوية يكتسبها الإنسان،
ويعمل على تطبيقها في حياته ليكون عابداً حقيقة. ويتضح هذا الأمر عند فهم معنى
العبادة، وأنه هو الخضوع المطلق والانقياد للمعبود، وهذا ما تدل عليه الآية
القرآنية الشريفة
﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ
عَبْدًا﴾
فالسموات والأرض وما فيها ومنه الإنسان يعبدون اللَّه، ومعنى عبادة السموات والأرض
هو انقيادها المطلق وخضوعها التام للإرادة الإلهية، وسيرها في النظم الربانية وعدم
مخالفتها لها.
لذلك لا تكون عبادة الإنسان عبادة حقيقية إلا إذا خضع خضوعاً تاماً
للَّه، وانقاد إليه في كل جوانب حياته على اختلافها، وتسري القدرة والسيطرة الإلهية
في كل كيانه وجوانب وجوده، كما تسري في جوانب وجود السموات والأرض والمخلوقات،
فتسير بإرادته دون مخالفة. لذلك اللَّه تعالى يعبر عن عبادة الإنسان في القرآن بهذا
المعنى
﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾
فمعناها كما فسرها المفسرون، نعبدك عبادة معبود حاضر مطلق من عباد حاضرين مطلقاً
فانين لا وجود مستقل لنا مقابل قدرتك، بل نستعين بك في ذلك ولا نرى لأنفسنا
الاستقلال في هذه الاستعانة أيضاً. إذن العبادة حتى لا تكون طقوساً فارغة خاوية يجب
أن تشمل كل جوانب الإنسان فيطيع اللَّه في كل شيء ويتحول الإسلام وقوانينه إلى
نظام يسري ويتحكم في كل حركات الإنسان، في نفسه وغيره، في رضاه وغضبه، في سعادته
وشقائه في تركه وفعله في حبه وبغضه، رجلاً كان أو امرأة، في كل مكانٍ وزمان. ولا
يدبر لنفسه تدبيراً يخالف تدبير اللَّه كما يعبر الإمام الصادق عليه السلام عن
حقيقة العبودية. فالرجل والمرأة يحل لهما الطيب بل يستحب في غير أيام الإحرام للحج
ويحل لهما الزواج ولكن في أيام الحج يحرم عليهما ذلك.
* التوحيد في الحج:
يمتاز الحج عن باقي العبادات بأنه دعوة للتوحيد بكل معانيه، ففيه يخرج الإنسان من
أهله وماله وبيته ووطنه وزينته وجماله، بل حتى من عدد من المستحبات، بل الواجبات
التي اعتاد عليها في عباداته الأخرى، لينطلق إلى نحو آخر من العبادة، فهو خروج من
كل شيء حتى من النفس إلى اللَّه. فقبل الحج اعتادت المرأة على أن تحاول ستر وجهها
عن الغير، إلا أنها فيه، وأثناءه يحرم عليها ذلك، ويجب أن تدفع غرامة على ذلك. إن
هذا درس في العبادة، والعبودية، والتوحيد العملي، الذي ينطلق معه الإنسان إلى طاعة
اللَّه، مهما اختلفت، وتقلبت، وتغيرت، ويدعو الإنسان للتفكر في أسباب هذا التغير،
وعلله وغاياته، إذ لولا اختلاف المصالح باختلاف الظروف والأوضاع، لما اختلفت
الأحكام. يدعوه إلى البحث والمعرفة، والمعرفة هي حقيقة العبادة. لأن من لا يعرف
اللَّه، ولا يعرف حكمته ولا يعرف رحمته لن تكون عبادته كاملة، بل تكون طقوساً،
وتقاليد، وعادات، ومراسم فقط. وهي بالتالي لن تحركه، لن تصل إلى قلبه، لن يشعر قلبه
بالحب والرغبة والميل، ومع عدم وجود الحب لا دافع يدفع الإنسان للحركة والجهد
والبذل.
إن الحكم بحرمة تغطية الوجه في الحج درس للمرأة ولكل مسلم، يعلّمه الالتزام
بأحكام اللَّه وبأن لا يعمل عقله وفهمه الخاص والمصالح التي يراها فقد تكون هذه
المصالح وهمية، آنية، قليلة، وزائلة؛ فعلى الإنسان أن يرجع إلى اللَّه دائماً،
ويسأله، ويطبق أحكامه، ويلتزم بها، ويعلم أن كل عمل يأمره اللَّه به ينبع من حقيقة
وواقع خلف الأعمال الظاهرية، فيه السعادة المنشودة للإنسان، والغايات النهائية،
والكمال المطلوب، فإذا عمل الإنسان كذلك وخرج من نفسه، وأهوائه وانقاد إلى ربه
شكراً لنعمه وكرامته، وحباً بجماله وجلاله، كان عبداً للَّه، وكانت عبادته خالصة،
وتوحيده تاماً.