الشيخ علي أمين جابر
روى ابن خالويه عن أمير المؤمنين والأئمة من ولده عليهم
السلام دعاء يعرف "بالمناجاة الشعبانية" لأنهم عليهم السلام كانوا يدعون به ويناجون
الله تعالى في شهر شعبان. وقد أورد المقدّس المحدّث الشيخ عباس القمي هذه
المناجاة في كتابه المشهور "مفاتيح الجنان" وعلّق في نهايتها أن هذه المناجاة "جليلة
القدر منسوبة إلى أئمتنا عليهم السلام مشتملة على مضامين عالية، ويحسن أن يدعى بها
عند حضور القلب متى ما كان". وهو بذلك يُشير إلى مسألة هامة تتعلق بهذه المناجاة
وهي أن النسبة إلى الإئمة عليهم السلام ليس بالضرورة لجهة الأسانيد ومدى صحتها،
وإنما لكونها جليلة القدر تشتمل على معاني عالية، لا يتوقع صدورها عن غير أهل البيت
عليهم السلام، فكلامهم عليه نور، يدل على نفسه بنفسه.
وقد عُرف هذا الدعاء "بالمناجاة" لخصوصية فيه. فالمناجاة من النجوى وهي الحديث عن
قرب، فالمدعو قريب المسافة عند الداعي، وهذا ما يشير إلى الخصوصية الروحية حينئذ
التي تلازمها المعرفة بالمدعو. والنجوى أيضاً بمعنى التناجي وهي المسارَّة، فإذا
ناجى العبد ربه فقد دعاه سراً لأن للَّه تعالى معية علمية ووجودية مع كل شيء فيحيط
به، كما قال تعالى في القرآن الكريم:
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ
الله يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا
خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا
هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ
الْقِيَامَةِ إِنَّ
الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾
(المجادلة: 7). من هنا نلمس هذا الفيض الروحاني والسيل العارم من المعنويات
التي ينكسر لها القلب وترتعش لها النفس، في تعابير المناجاة ومقاطعها المتتابعة،
التي تبدأ بالدعاء والنداء بالمناجاة، وتنتهي بطلب المعرفة الممزوجة بالخوف والرهبة
التي لا تكون إلا بالطاعة "إلهي وألحقني بنور عزك الأبهج فأكون لك عارفاً وعن سواك
منحرفاً ومنك خائفاً مراقباً يا ذا الجلال والإكرام".
* محاور المناجاة
إن الأفكار الأساسية في المناجاة الشعبانية تدور حول أمور ثلاثة:
1 - الاعتراف بالذنب والتقصير في جنب
الله تعالى، وهو معنى يتكرر بلا ملل وفي
انسياب روحي تنفعل له النفس ويتعزز فيها هذا الإحساس مرة بعد أخرى: "وإن كان قد دنا
أجلي ولم يدنني منك عملي فقد جعلت الإقرار بالذنب إليك وسيلتي". "إلهي تولى من أمري
ما أنت أهله وعد عليَّ بفضلك على مذنب قد غمره جهله". "إلهي وقد أفنيت عمري في شرة
السهو عنك وأبليت شبابي في سكرة التباعد منك.." وهكذا..
2 - العودة والأوبة إليه تعالى إذ لا ملجأ منه إلا إليه. وهنا يشعر الداعي والمناجي
أن اللغة قد تبدّلت من الألم والحسرة والاحساس بالسقوط، إلى الحماسة والحياة
الجديدة والاستبشار أمام التفضل والرحمة الإلهية التي وسعت كل شيء. "إلهي انظر
إليّ نظر من ناديته فأجابك واستعملته بمعونتك فأطاعك يا قريباً لا يبعد عن المغتر
به ويا جواداً لا يبخل عمن رجا ثوابه. إلهي هب لي قلباً يدنيه منك شوقه ولساناً
يرفع إليك صدقه ونظراً يقربه منك حقه..". هي إذن يقظة القلب والجوارح التي
يُلقيها المولى بنفحاته على عبده. ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل يجد فجأة الإنسان
ذاته ويرى من الحقائق ما لم يكن يراه من قبل فيدرك معنى العزة والكرامة والأمن في
كنف المولى. "إلهي إن من تعرّف بك غير مجهول ومن لاذ بك غير مخذول ومن أقبلت عليه
غير مملوك. إلهي إن من انتهج بك لمستنير وإن من اعتصم به لمستجير وقد لذت بك يا
إلهي..".
3 - السعي إلى معرفته تعالى بالمعرفة القلبية بعد إذعان العقل وتصديقه بالحقيقة
القدسية المهيمنة على الوجود. ولا مجال لحصول هذه المعرفة التي تُصيِّر الإنسان
ولياً والهاً وعاشقاً لربه إلاّ عن طريق القلب الذي يضيئه الإيمان الصادق، فينقطع
إليه لما يراه من العظمة، وكلما التمس خيراً وجد خيرات، فلا يعود لديه مطمع إلا
التوغل في ساحة القدس، وهي مقامات العارفين والأولياء الذين يتحفهم
الله تعالى
بأسراره كلما عملوا في مرضاته، مصداقاً لقوله عزّ وجلّ
﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ
الله
لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾. لكن ذلك كله لا بد وأن يبدأ باليقظة والانتباه من الغفلة
والخروج عن الاستخفاف بالأمر الإلهي الذي هو مدعاة لكل ذنب. "إلهي إن أنامتني
الغفلة عن الاستعداد للقائك فقد نبهتني المعرفة بكرم آلائك".
إن المناجاة
الشعبانية تدعو الإنسان إلى الذكر الدائم وإلتزام العهد مع
الله تعالى، فإذا عرف
ربه ولم يبالِ بسواه أدرك عزة وجوده، ولذلك آثار عظيمة تدعونا للتأمل.