يحظى الإنسان في هذه الأشهر الثلاثة: رجب وشعبان وشهر
رمضان المبارك، ببركات كثيرة. وبوسع الناس الاستفادة من هذه البركات.
* أشهرٌ مباركة
بطبيعة الحال، يعتبر المبعث النبويّ الشريف مبدأ جميع هذه البركات. ففي شهر رجب
توجد ذكرى المبعث النبويّ الشريف، وولادة الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام وعدد
من الأئمّة الآخرين عليهم السلام. ويضمّ شهر شعبان ولادة الإمام الحسين سيّد
الشهداء عليه السلام، وولادة صاحب الأمر (أرواحنا له الفداء). وفي الشهر المبارك
نزول القرآن على القلب المبارك للرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم.
وإنّ كرامة هذه الأشهر الثلاثة تعجز الألسن والعقول والأفكار عن استيعابها.. ولا
شكّ في أنّ من بركات هذه الأشهر الأدعيةَ الواردةَ فيها. فالمناجاة الشعبانيّة
تعتبر من أعظم المناجاة، ومن أعظم مصادر المعرفة الإلهيّة التي بوسع المهتمّين بها
النهل منها، على قدر وعيهم واستيعابهم.
* الإيمان.. برهان القلب
إنّ عناوين المسائل الإلهيّة والعرفانيّة عناوين سهلة بوسع كلّ شخص فَهمها. وهكذا
المسائل الاستدلالية والبرهانية؛ ففي ذات الوقت الذي تتّسم فيه بالدقّة إلّا أنّها
سهلة الإدراك، إذا ما تحقّق البرهان والنتيجة المرجوّة منه. لكن البرهان في القلب
يكون أكثر صعوبة، وهذا ما يُطلق عليه "الإيمان". فكثير من أصحاب البرهان لم يوفّقوا
للوصول إلى هذه المرتبة من الإيمان، فهذه مسألة لا تنفذ إلى القلب إلّا من خلال
التلقين والتكرار والرياضة الروحية.
انظروا إلى الميّت، إنّه غير قادر على إلحاق الضرر بالإنسان. ولكنّ الإنسان إذا ما
كان وحيداً في مقبرة، وإلى جوار الموتى، ينتابه الخوف، لأنّ ذلك البرهان والضرورة
العقليّة لم يصلا إلى القلب. المعنى الذي أدركه العقل ويتّسم بالضرورة، لم يستقرّ
في القلب. ولكن، بالنسبة إلى هؤلاء الذين يعملون -على سبيل المثال- في غسل الموتى
وعلى اتّصال دائم بالموتى، ولأنّه عملهم اليوميّ، فإنّ هذا الأمر قد دخل قلوبهم ولن
تجد عندهم أيّ خوف أو رهبة.
وفي المسائل الإسلاميّة، والمسائل العقليّة يكون الأمر بهذا النحو أيضاً، فكم من
المسائل العقلية ثبتت بالدليل القويّ إلا أنّها لم تؤثر في الإنسان؟! لأنّ نتيجة
البرهان وصلت إلى العقل ولكنّها لم تدخل القلب، لا يوجد إيمان بها؛ العقل يُدركها
ولكنّ القلب لم يؤمن بها.
* التوجّه العرفانيّ في القرآن والمناجاة
وكم نجد من المسائل العرفانيّة في القرآن الكريم، وفي مناجاة الأئمّة عليهم السلام،
لا سيّما المناجاة الشعبانيّة "إلهي هبْ لي كمال الانقطاع إليك، وأنر أبصار
قلوبنا بضياء نظرها إليك، حتّى تخرقَ أبصار القلوب حُجُبَ النور، فتصل إلى معدن
العظمة، وتصير أرواحنا معلّقةً بعزّ قدسك. إلهي واجعلني ممّن ناديته فأجابك،
وناجيته فصعق لجلالك"(1).
غير أنّ الأشخاص، والفلاسفة، والعرفاء الذين بوسعهم استيعابها إلى حدّ ما، غير
قادرين على تجسيدها في الوجدان، بسبب غياب التوجّه العرفاني. مثلاً، في الآية
الكريمة:
﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ
قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾ (النجم: 8-9)، نرى أن عدداً من المفسّرين والفلاسفة فقط
تحدّثوا عن هذا الموضوع.
* دليل عظمتها
فهذه عناوين تبدو سهلة للإنسان ومتصوَّرة. غير أنّ أياً من العارف، والفيلسوف
والعالم ليس بوسعه أن يُدرك كُنه، مسألة "فصعق لجلالك"، التي مبدؤها القرآن. وكذلك
﴿وَخَرَّ موسَى صَعِقًا﴾ (الأعراف: 143)، حيث يتصوّر الإنسان أنّه سقط وأغمي عليه
(صعق). ولكن ماذا كان الصعق؟ ما هو صعق النبيّ موسى عليه السلام؟ هذه مسألة لا
يفهمها غير النبيّ موسى عليه السلام. وكذلك مسألة
﴿دَنَا فَتَدَلَّى﴾
التي ليس بوسع أحد أن يفهمها ويدركها ويذوب فيها غير ذلك الذي حصل له (الدُنُوّ)...
إلى غير ذلك من العبارات الواردة في هذه المناجاة العظيمة، التي تبدو في الظاهر
سهلة مفهومة غير أنّها في الحقيقة ممتنعة على الفهم، وإنّ الإنسان بحاجة إلى رياضات
كثيرة حتّى يتسنّى له فهم (ناجيتَه) بفتح التاء، وليس (ناجيتُه) بضم التاء.
فماذا تعني (ناجيتَه)؟ هل المقصود أنّ الله تعالى يناجي الإنسان؟ وما هذه المناجاة؟
ما الذي أراده الأئمّة عليهم السلام من ذلك؟ إنّني لم أرَ مثل هذه التعابير في
أدعية أخرى غير هذا الدعاء. لقد كان الأئمّة عليهم السلام جميعاً يقرأون هذه
المناجاة. وهذا دليل على عظمتها. ما هذه المسائل التي كانت بينهم وبين الله تبارك
وتعالى؟ "هَبْ لي كمال الانقطاع إليك". فما هو كمال الانقطاع؟ إنّ أيدينا
قاصرة عن أمثال هذه الأمور، أسأل الله تعالى أن يوفّقنا في هذا الشهر الكريم وكذلك
شهر رمضان المبارك، لتحقيق ولو لمحة بسيطة من هذه الأمور في قلوبنا، أن نؤمن
بماهيّة مناجاة الله مع الإنسان.
* لطائف في القرآن
فكلّ هذه المسائل موجودة في القرآن بنحو لطيف، وفي كتب الدعاء المتوافرة بين
أيدينا، والتي وصلت إلينا عن طريق أئمّة الهدى عليهم السلام. هي ليست بلطافة القرآن
الكريم، ولكنها لطيفة أيضاً.
وإنّ كلّ الذين استخدموا هذه الألفاظ، فيما بعد، كانوا قد استعاروها من القرآن
الكريم والحديث الشريف، سواء عن علم أو دون علم. وربما لا يعتبرون سندها صحيحاً
أيضاً. وطبعاً، فإنّ القلة هم الذين بوسعهم إدراك معنى ذلك. فكيف إذا ما تذوقَتْه
الروح وأنست به. فهذه مسألة تفوق تلك المسائل.
"إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك، وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك، حتّى تخرق
أبصارَ القلوب حجب النور، فتصلَ إلى معدن العظمة، وتصير أرواحنا معلّقةً بعزّ
قدسك".
(*) من خطاب الإمام الخميني قدس سره في 15 شعبان 1403هـ.ق.
(1) مفاتيح الجنان، أعمال شهر شعبان.