آية الله الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي (حفظه الله)
أشرنا في العدد السابق إلى أنّ قلب وروح الإنسان
هما مركز العواطف والأحاسيس. وذكرنا أنّ للمحبّة سلسلة طولية يكون "الوَله"
و"الهيام" فيها في أعلى المراتب. وقد استخدمت نصوصنا الدينيّة، بالأخصّ "المناجاة"،
أعلى مراتب المحبّة أمثال "الهيام" و"العشق" فيما له علاقة بالله تعالى، ومن ثمّ
فيما له علاقة بأولياء الله. ومن جملة هذه الأمور مسألة محبّة أهل البيت عليهم
السلام، التي تصل بالبعض أن يضحّي بنفسه انطلاقاً من حبّهم وعشقهم عليهم السلام.
* إبراهيم عليه السلام مظهر لعشق الله
يُعتبر إبراهيم عليه السلام من جملة المظاهر التامّة والكاملة لعشق الله تعالى. فقد
ورد في الروايات: "أنَّ الملائكة قال بعضهم لبعض: اتّخذ ربنا من نطفةٍ خليلاً وقد
أعطاه مُلكاً عظيماً جزيلاً. فأوحى الله تعالى إلى الملائكة اعمدوا [إلى] على
أزهدكم ورئيسكم فوقع الاتّفاق على جبرئيل وميكائيل فنزلا إلى إبراهيم عليه السلام
في يوم جمع غنمه وكان لإبراهيم عليه السلام أربعة آلاف راعٍ، وأربعة آلاف كلب في
عنق كلّ كلب طوقٌ وَزِن من ذهب أحمر، وأربعون ألف غنمة حلّابة وما شاء الله من
الخيل والجمال، فوقف المَلَكان في طَرفي الجمع، فقال أحدهما بلذاذة صوت: سبّوح
قدّوس، فأجابه الثاني: ربّ الملائكة والروح، فقال: أعيداهما ولكما نصف مالي، ثمّ
قال: أعيداهما ولكما مالي وولدي وجسدي، فنادت ملائكة السماوات: "هذا هو الكرم هذا
هو الكرم" فسمعوا منادياً من العرش يقول: الخليل موافق لخليله"(1).
* محبّة أولياء الله
وتتحقّق المرتبة الأدنى من ذلك فيما له علاقة بأولياء الله تعالى. وعلى هذا الأساس،
فالبعض يعشق أهل البيت عليهم السلام، ومن جملتهم الإمام الحسين عليه السلام، بحيث
عندما يذكر اسم الإمام عنده، وكأنّ هدية كبيرة قد قدّمت له، فنراه شديد السرور بحيث
لا يسعه جلده. وهذه من خصائص روح الإنسان الذي إذا أَودع قلبه شخصاً، يصبح مستعداً
لتقديم وجوده لأجله، لا بل يصل إلى مرحلة السُكر من سماع اسم معشوقه، فكيف إذا
شاهده واستأنس به.
هناك الكثير من النصوص الروائية التي تشير إلى وجود هذه الحالة عند أهل البيت عليهم
السلام في علاقتهم بالله تعالى. ومن جملتهم الإمام أمير المؤمنين عليه السلام الذي
كان يُغْشى عليه مراراً في الليل وهو مشغول بمناجاة الله. قد يتصوّر البعض أنّ ذلك
بسبب الخوف من الله تعالى فقط؛ والحقيقة أنّ ذلك ليس بسبب الخوف، بل الذي يدعو إلى
هذه الحالة هو شدّة عشق الله والشوق إلى لقائه والأنس به.
* سكينة الروح بذكر الله
قد تصاب روح الإنسان تارةً بما يقابل العشق والمحبّة؛ أي الاضطراب والقلق وهي أمور
تؤلم الإنسان. وعلى الرغم من أنّ الإنسان لا يُسَرّ بهذه الحالة ولا يرغب في
الابتلاء بها؛ إلا أنّه لا مفرّ أمامه منها. وقد دفع عموم حالة الاضطراب وعدم
انفكاكها من حياة الإنسان بعض فلاسفة الغرب، بالأخص الوجوديين، إلى اعتبار الإنسان
"حيواناً مضطرباً" خلافاً للفلاسفة اليونانيين والمسلمين الذين اعتبروه "حيواناً
ناطقاً"، فاعتقدوا أنّ الاضطراب هو الفصل الحقيقيّ للإنسان، وليس النطق. أمّا علاج
الاضطراب والقلق والوصول بالإنسان إلى مرحلة الهدوء والسكينة من وجهة نظر القرآن
الكريم والنصوص الدينيّة، فهو ذكر الله:
﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ
قُلُوبُهُم بِذِكْرِ الله أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ (الرعد: 28). ويقابل حالة الاضطراب، حالة الاطمئنان
والهدوء التي ليست من مقولة المعرفة، بل هي من الحالات العاطفيّة. يتحدّث علماء
النفس عن أنّ غايتهم الحصول على الهدوء والاطمئنان. وبما أنّ الاضطراب والقلق
يشكّلان اليوم أكبر الآلام البشريّة، لذلك كانت الأدوية المهدّئة للأعصاب من أكثرها
استخداماً بالأخصّ عند الغرب الذي كثُرت فيه العيادات الصحيّة لمعالجة الاضطرابات.
ولكن، ولأنّهم لم يصلوا إلى مرحلة معرفة الدواء الأساسيّ والعامل الأصليّ لإزالة
الاضطراب، كانت الأدوية التي صنعوها عبارة عن مهدّئات ساهمت في إضعاف فَهم وإدراك
وإحساس الإنسان.
إنّ المطلوب عند الإنسان والذي يدعوه إلى اللذّة، امتلاك فَهم وإدراك القوى غير
المخدّرة المترافقة مع الهدوء. وأمّا الطريق الوحيد للحصول على ذلك فهو العمل طبق
القرآن الكريم الذي اعتبر ذكر الله أهمّ العوامل والأسباب المهدّئة.
*الروح.. حركة مستمرّة
إنّ حصول الهدوء والاطمئنان من خلال ذكر الله بحاجة إلى تحليل فلسفيّ ومعرفة
نفسيّة. ومن جملة التحليلات التي يمكن تقديمها في هذا الإطار أنّ روحنا فعّالة
باستمرار، وهي بحالة حركة مستمرّة ولا يمكنها الهدوء.
إنّ "الروح" هي من عائلة "الريح". ولعلّ هذا الاشتراك هو بسبب خاصيّة الحركة في كلا
الوجودين. عندما يقال إنّ الروح متحرّكة وحيويّة وغير مستقرّة ذاتاً؛ أي أنّ الروح
تطلب الكمال ذاتاً وما لم تصل إلى أَوج تكاملها، لا تتوقّف عن الحركة. الإنسان يطلب
الكمال اللامتناهي، وقد أثبتت التجربة أنّ أيّ شيء محدود لا يمكنه إقناع الإنسان.
إذا سعى الإنسان نحو الثروة والسلطة فهو لا يقتنع حتّى لو أعطوه الكرة الأرضية، بل
يحاول الوصول إلى الكواكب السماويّة الأخرى ليستولي عليها.
* الكمال المطلوب
اعتبر العظماء والعلماء أنّ وجود هذا الميل نحو الكمال، والبحث عن الكمال المطلق في
الإنسان دليل على التوحيد والفطرة الإلهيّة عند الإنسان؛ أي أنّ يد القدرة الإلهيّة
هي التي زرعت فطرة طلب الكمال عند الإنسان، وهذا الذي أوجد فيه الدافع للعمل
والتقدّم والتكامل، إلّا أنّ المقصد في تكامل الإنسان ليس في عالم الممكنات. ولذلك
مهما جمع الإنسان من عالم الممكنات فلن يشبع، وما لم يطرق كافة حدود عالم الممكنات،
لا ينطفئ عطشه في طلب الكمال والتعالي. أمّا نهاية نقطة تعالي وتكامل الإنسان فهي
القرب الإلهيّ، فعندما يصل الإنسان إلى ذلك يكون قد وصل إلى كماله المطلوب وحصل على
الهدوء الأبديّ والثابت. يقول الإمام السجّاد عليه السلام: "لا تسكن النفوس إلّا
عند رؤياك"؛ أي أن الهدف الغائيّ للإنسان، رؤية الله ولقاؤه والوصول إلى مرحلة
لا يبقى بين الإنسان والله أيّ حجاب. هذا هو المقصد الذي خلق الإنسان ليصل إليه،
وعندما يصل، يستقرّ ويحصل له الهدوء والاطمئنان. طبعاً بما أنّ البشر تمتلك ظرفيات
وجودية متفاوتة، لذلك كانت مراتب الاستفادة من القرب الإلهيّ متفاوتة أيضاً. ويشترك
الجميع في الوصول إلى الهدف والمقصد الأبديّ من خلال الوصول إلى لقاء الله والكمال
المناسب لظرفهم الوجوديّ.
1- التفسير الصافي، الفيض الكاشاني، ج1، ص505.