سكنة حجازي
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا
وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ
﴾(التحريم: 6).
أيها الوالدان!
يراكما مهتمين دائماً بتلك الأوراق التي ترسم البسمة والفرح على وجهيكما أحياناً،
والانقباض والأسى أحياناً أخرى وكثيراً ما تحرصان على خزنها والاحتفاظ بها بعيداً
عن عينه وأعين الآخرين. فلا يدري سبب هذا الاهتمام الزائد بها، وهي مجرد أوراق! ولا
يدري كيف تصل إليكما؟ ولماذا؟
لماذا يستطيع أخوه حملها والتصرف بها بينما هو لا يستطيع ذلك؟
وإذا مزق إحداها ينهال عليه الزجر والعقاب والتوبيخ!
هلاّ أخبرتماه حقيقة هذه الأوراق؟ ما الذي تساويه؟ ولماذا هذا الاهتمام الزائد بها؟
مسألة أخرى، تعبثان بأغراضه وحاجياته، فيما لا تسمحان له بالاقتراب من أغراضكم
خصوصاً كُتُب الوالد وخزانته؟
ولماذا يمكن لأخيه أن يلعب بألعابه ولا يُسمَح له بمسّ ألعاب الآخرين. ما هي
ممتلكاته وأين حدود ممتلكات الآخرين؟
* المال وأهميته في الإسلام:
﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾
﴿وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا﴾.
كان المال ولا يزال يشكل المكانة العظمى في حياة البشر وله الدور الكبير في توجيه
حياتهم وسلوكياتهم، فهو، كما ينظر الآخرون إليه، عصب الحياة. ومع أنه الوسيلة لا
الغاية في الإسلام إلا أنه يُشكّل محوراً مهماً، لذا من الضروري التنبه إلى المخاطر
عند إساءة استعماله والحصول عليه. هذا وقد نهى الإسلام عن الإسراف والتبذير في
المال حتى في المجالات المباحة أو المستحبة كما ذم البخل وغلّ اليد. ودعا من جانب
آخر إلى السعي والتحصيل بالطرق السليمة والمشروعة وحث على العمل والمثابرة الدائمة.
فقد رسم حدود التعامل مع المال حتى تكون الشخصية سوية غير منحرفة وذلك من خلال
التعامل الموضوعي، ونبذ الذات، والإيثار والإنفاق، فقال: بأنه يجب السعي لتحصيل
المال واستثماره في الحياة وذلك بقول الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله:
"الكاد على
عياله كالمجاهد في سبيل
الله". دعا إلى إنفاق المال في مجالات شتى (خمس، زكاة،
صدقات...) ومن هنا كان له الأثر الكبير في حياة الطفل وتوجيهه في كيفية التعامل معه
خاصة في هذا العسر الاقتصادي الذي نمر به. طلب عدم تحويل توفير المال من وسيلة إلى
غاية فهو لتوفير مستلزمات الحياة بعزة وكرامة. فكيف يمكن للطفل أن يتحمل مسؤولية
المال وحسن إنفاقه أو تحصيله والوصول إليه بالطرق المشروعة؟
* الطفل والمال:
كي يحسن الطفل التصرف مع المال ويتعلم أسلوب التعامل معه لا بد من تربيته على ذلك،
كما في جوانب حياته الأخرى، لذا ينبغي مراعاة الأمور التالية:
1 - التعريف بالملكية:
يمكن أن يعرف الطفل الملكية وحقوق الآخرين إضافة إلى أننا لا يمكن أن نحصل على
الأشياء بدون ثمن، كأن تصطحب الأم الطفل إلى الحانوت أو البقال ليرى أنها تأخذ
الحاجيات وتدفع ثمنها للبائع أو تطلب إليه أن يدفع أجرة "التاكسي" مثلاً وإذا ما
طلب شيئاً من الحانوت لتطلب إليه وتعطيه كي يدفع ثمن ما يأخذه، وبذلك يفهم أنه لا
يمكن أن يأخذ شيئاً بدون ثمن، ثم إن هذه للآخرين ويجب أن نحصل على إذن حتى نستطيع
أخذها بعد دفع ثمنها.
2 - تعليمه حسن التصرف:
عندما يبدأ الطفل بالذهاب إلى المدرسة يمكن أن يُمنح بعض النقود وتعريفه وجهة
استعمالها. وعندما يصبح أكبر قليلا يمكن إعطاؤه مصروف أسبوع مع التأكيد عليه أنه لا
يمكن أن يأخذ مبلغاً آخر حتى آخر الأسبوع. وهذا لتعويده المسؤولية وإمساك نفسه من
جهة وكذلك توفير ما يتلقاه من أموال إضافية (عيدية هدية...) من جهة أخرى. فهذا
المبلغ البسيط وهذا التصرف وسيلة مهمة لتعليم الطفل كيفية إنفاق المال ضمن برنامج
يضعه بنفسه.
3 - إدخار المال:
من هنا تأتي أهمية إدخار المال فالمعروف أن الطفل لا يستطيع الصبر والانتظار في
عملية إشباع حاجاته. ولتعويده على ذلك لا بد من تعليمه كيفية الانتظار مدة زمنية
معينة وذلك عندما يعرف أنه بإمكانه الحصول على شيء ثمين أكثر.كأن يوفر بعض المال
من مصروفه اليومي للحصول على لعبة ويمكن تشجيعه أكثر، إذا ما لاحظنا تجاوبه، بزيادة
مصروفه أحياناً، وهذا الادخار قد يمتد من أيام إلى أسابيع، فأشهر. لتصل إلى فتح
حساب له في المصرف فيما بعد.
4 - الأهل القدوة:
من المعروف أن الطفل يبدأ بالتقليد والمحاكاة منذ صغره لذا يرى ويراقب ويتصرف كما
يفهم، فالطفل الذي يعيش مع أهل مبذرين فإنه سيصبح كذلك وسينشأ على الاعتقاد بأنه
يستطيع أن يملك ما يشاء وساعة يشاء. وبالمقابل فإن الأهل المقتصدين الذين يتعاملون
مع المال بحكمة سينشأ أولادهم على هذا الأساس وسيكون بمقدورهم اتخاذ تدابير تساعد
على حسن التصرف بالمال.
5 - تعويد الطفل على العمل:
وذلك ربما لمدة قصيرة أثناء العطل المدرسية الصغيرة أو في العطل الصيفية وإعطاؤهم
بدل أتعابهم ليشعروا بقيمة المال، فهذا يمنحهم الثقة بالنفس وتوسيع مداركهم من جهة
أخرى. ومن المهم الإشارة إلى عدم إجبار الأولاد على العمل لأن التأثير سيكون سلبياً.
6 - المال خبرة:
من الخطأ أن يحجب الأهل المال عن أولادهم بحجة توفير كل مستلزماتهم وحاجياتهم دونما
حاجة إلى إعطائهم المال واستعماله. فالمال خبرة خاصة يجب أن يعتاد الطفل على
التعامل به ومن الضروري شرح ذلك وبأن المال وسيلة لا غاية، إذ أن المؤهلات المطلوبة
في الإنسان الناجح هي الثقافة والعلم والحكمة والأخلاق... وأن كل ذلك يفوق في
أهميته المال والممتلكات والمظاهر الخارجية.
7 - ليس المال وسيلة للمكافأة والعقاب:
إن جعل المال وسيلة للمكافأة للطفل بشكل دائم على عمل أحسن القيام به أو عقابٌ
نتيجة سلوك تصرفه يعطي الطفل انطباعاً ومفهوماً خاطئاً عن المال فيربط الطفل بين
المال، والرضا، والسخط أو الغضب.
8 - إنفاق المال:
لا بد من تعويد الطفل على الانفاق بدون مقابل سريع (مقابل مؤجل)، كأن نعطيه مبلغاً
من المال ليدفعه إلى محتاج أو يضعه في صندوق الصدقات وإفهامه أن هذا الإنسان مريض
لا يستطيع العمل وهو بحاجة إلى الغذاء والكساء، لذا فنحن نساعده. وليكون إنفاق
المال في مجالاته المفيدة والمطلوبة.
9- حق الملكية:
أ - ينبغي أن نجعل للطفل مكاناً خاصاً به له حق التصرف والتحرك فيه كما يشاء، غرفة
خاصة، زاوية في غرفة. يحتفظ فيها بحاجياته وأغراضه الخاصة وتركه يرتبها وينظمها
بتوجيه غير مباشر أحياناً ومباشر أحياناً أخرى، وهذا ما أشرنا إليه في حلقاتنا
السابقة بهذا نعرّف الطفل على جانب من الحرية والملكية.
ب - أما الجانب الآخر فهو عدم استعمال أغراضه وأخذها أو حتى العبث بها مهما كانت
الدوافع والأهداف لأن ذلك يسيء إلى شخصيته ويغير مفهوم الملكية عنده، وإذا اضطررنا
لإعادة ترتيبها أو استعمال بعض منها فليكن ذلك بإذن مباشر منه.
ج - عند ادخاره المال علينا أن نصرفه فيما وعدناه به، أي بحاجيات خاصة به، فإياكم
وحرمانه مما ادخره لنفسه واستعماله للبيت أو لغيره. لأن ذلك سيجعله يفقد الثقة بكم
ومن ثم لا يعود إلى الادخار مرة أخرى.
د - احترام ملكية الآخرين، بهذا يستطيع احترام خصوصيات وأغراض الآخرين والحفاظ
عليها إذا ما طلبنا إليه عدم العبث أو الاقتراب مما ليس له سيفهم ويمتنع إلا إذا
كان يعاني مشكلة أخرى (العدوانية، السرقة...).
هـ اللعب الجماعي، عندما يعتاد الطفل على أطفال مثله يأخذ ويعطي (التبادل، الكلمات،
بالألعاب وبالحركات...) فإنه سينشأ كطفل اجتماعي من جهة ويعتاد حب الآخرين من جهة
أخرى إضافة إلى ما يمكن من تعليمه حدود التعاطي مع الآخرين ومنحه آفاقاً وأفكاراً
جديدة وواسعة توسع مداركه وأفكاره.
وأخيراً لا بد من الإشارة إلى أن تربية الطفل، خصوصاً على حب الآخرين والإيثار
والصبر...، لا تكون إلا بالقدوة من خلال الأهل واستماع ومشاهدة قصص الأبرار
والصالحين والأسلوب التربوي السليم عند الأهل والمربين. وهذا يحتاج إلى حكمة وتدبير
في التصرف إزاء متطلباته التي أصبحت بلا حدود ولا طاقة للأهل على تنفيذها.