بالسند المتّصل إلى الإمام الأقدم حجّة الفرقة ورئيس
الأُمّة، محمد بن يعقوب الكلينيّ (رض) عن محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد بن عيسى،
عن الحسن بن محبوب، عن معاوية بن وهب قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول:
"إذا تاب العبد توبةً نصوحاً أحبّه الله فستر عليه في الدنيا والآخرة. فقلت:
وكيف يستر عليه؟ قال: يُنسي مَلَكَيْه ما كتبا عليه من الذنوب، ثمّ يوحي إلى
جوارحه: اكتمي عليه ذنوبه، ويوحي إلى بقاع الأرض: اكتمي عليه ما كان يعمل عليكِ من
الذنوب، فيلقى الله حين يلقاه وليس شيءٌ يشهد عليه بشيءٍ من الذنوب"(1).
* في حقيقة التوبة
اعلم أنّ التوبة من المنازل المهمّة الصعبة. وهي عبارة عن الرجوع من عالم المادّة
إلى روحانيّة النفس، بعد أن حُجبت هذه الروحانيّة ونور الفطرة بغشاوات ظلمانيّة
جرّاء الذنوب والمعاصي.
والنفس في بدء فطرتها تكون صفحة نقيّة وخالية من كل رَسم ونقش، ولا توجد فيها
الكمالات الروحيّة ولا تتّصف بالنعوت المضادّة لها. ولكن قد أودع الله فيها نور
الاستعداد والأهليّة لنيل أيّ مقام رفيع أو وضيع، وأُنشئت فطرتها على الاستقامة،
وعندما تجترح سيّئة، تحصل في القلب ظُلمة وسواد، وكلّما ازدادت المعاصي، تضاعفت
الظلمة والسواد، إلى أن يغشى الظلام والسواد القلب كلّه، فإذا انتبه الإنسان ودخل
منزلَ التوبة -حسب الشرائط- زالت الحالات الظلمانيّة وعاد إلى الحالة النوريّة
الأصليّة وكأنها تنقلب -النفس- إلى صفحة خالية من جميع الكمالات وأضدادها.
"التائب من الذنب كمن لا ذنب له"(2).
ويجب الانتباه إلى نقطةٍ هامّة: هي أنّ الشخص التائب بعد توبته لا يستعيد الصفاء
الداخليّ الروحانيّ، والنّور الخالص الفكريّ السابق، فلو أنّك سوّدت صفحة بيضاء ثم
حاولت أن تعالج السواد وتزيله عنها لم تعد الصفحة إلى حالتها الأولى من البياض
الناصع. إنّه لَبَونٌ شاسعٌ بين خليلٍ يكون مخلصاً مع الإنسان طوال العمر، وصديق
يخونك ثمّ يعتذر عن تقصيره.
إذاً، يجب على الإنسان أن يتجنَّب ما أمكن ارتكاب المعاصي والذنوب، لأنّ إصلاح
النفس بعد إفسادها من الأعمال الشاقة.
* في أركان التوبة
إنّ من أهمّ الشروط التي تُعتبر رُكناً ركيناً للتوبة:
1- الندامة على الذنوب والتقصير في أداء التكاليف الشرعيّة.
2- العزم على عدم العودة إلى الذنوب نهائيّاً.
وفي الحقيقة، أنّ هذين الأمرين يحقّقان حقيقة التوبة ويُعتبران من مقوّماتها
الذاتية. والعمدة في هذا الباب، تحصيل هذا المقام وإنجاز هذه الحقيقة على نحو
يتذكّر الإنسان تأثير معاصيه في روحه، وعواقبها في عالم البرزخ ويوم القيامة، كما
هو مقرّر في المعقول والمنقول ومبرهن عليه لدى أهل العلم والمعرفة، ومأثور في أخبار
أهل بيت العصمة عليهم السلام من أنّ للمعاصي في عالم البرزخ والقيامة صوراً تتناسب
معها. وهذه الصور في ذلك العالم تكون ذات حياة وإرادة حيث تعذّب الإنسان المذنب
وتسيء إليه عن شعور وإرادة. فإنّ نار جهنّم، أيضاً، تحرق الإنسان عن إرادة ووعي؛
لأنّ تلك النشأة نشأة الحياة.
* الله يحبّ التوّابين
عندما يتوفّر هذان الركنان -الندم على اقتراف المعصية والعزم على عدم العودة إليها-
يتيسّر عمل سالك طريق الآخرة، وتغشاه التوفيقات الإلهيّة ليصبح حسب النصّ القرآنيّ
﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ
وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ (البقرة: 222) وحسب الرواية الشريفة في أوّل المقال,
محبوباً لله تعالى، إذا كان مخلصاً في توبته.
يجب على الإنسان أن يسعى في سبيل تحقيق التوبة، بالرياضة العلميّة والعمليّة،
وبالتفكّر والتدبّر اللّائق ويجب عليه أن يفهم أنّ المحبوبيّة عند الله لا تقدّر
بحساب. والله يعلم بأن صورة حبّ الحقّ في تلك العوالم من أيّ نوع من الأنوار
المعنويّة والتجلّيات الكاملة تكون، وكيف يتعامل الله سبحانه مع محبوبه.
أيُّها الإنسان كم أنت ظلوم وجهول، ولا تقدّر نعم وليّ النعم! إنّك تعصي وتعادي
سنين وسنين وليَّ نعمك، الذي وفّر لك كلّ وسائل الرفاه والراحة دون أن تعود منها
عليه -والعياذ بالله- بجدوى وفائدة، وطيلة هذه الفترة قد هَتكت حرمته وطَغيت عليه
ولم تخجل منه أبداً ولكنّك إذا ندمت على ما فعلت ورجعت إليه، أحبّك الله وجعلك
محبوباً له
﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ﴾
فما هذه الرحمة الواسعة والنعم الوافرة؟
* الندامة.. احتراق القلب
وأيضاً، يجب على الإنسان أن يقوّي في قلبه صورة الندامة، كي يحترق القلب إن شاء
الله تعالى؛ وذلك بأن يفكّر في الآثار الموحشة للمعاصي وفي عواقبها، ويعمل على
تقوية الندامة في قلبه، ويُضرم النار في قلبه على غرار
﴿نَارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ﴾
(الهمزة: 6)، ويحرق قلبه في نار الندامة حتّى تحترق
مع نار الندامة جميع المعاصي وتزول الكدورة عن القلب وصدئه. وليعلم أنّه إذا لم
يضرم بنفسه نار الندامة، ولم يفتح في وجهه باب جهنّم هذه التي تكون بذاتها الباب
الرئيسيّ لأبواب الجنّة، فعندما ينتقل من هذا العالم تهيّأت له لا محالة في ذلك
العالم نار عاتية، وتُفتَح في وجهه أبواب جهنّم وتوصد في وجهه أبواب الجنّة
والرحمة.
(*) الأربعون حديثاً، الحديث السابع عشر.
1- الكافي، الكليني، جزء 2، ص 430.
2-(م.ن)، ص435.