نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

الغيب: وكرامات الأولياء


الشيخ فادي ناصر


لم يكن الإنسان مخلوقاً عادياً في منطق القرآن الكريم، بل كان موجوداً يتمتّع بمميّزات خاصّة ومواصفات استثنائية، جعلته مختلفاً عن بقيّة الموجودات والمخلوقات في هذا العالم.

* الإنسان في القرآن الكريم
فقد نفخ الله فيه من روحه ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي (سورة الحجر:29)، واتّخذه خليفته ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً (البقرة: 30)، واصطنعه لنفسه ﴿وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (طه: 41)، وجعلّه معلّماً بالتعليم الإلهيّ ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا (البقرة: 31)، وغيرها الكثير من النعم والعطاءات الإلهيّة التي لا حدّ لها ولا حصر، كنعمة العقل، والفطرة، ونور الإيمان، وتسخير الملائكة و... فكان الإنسان، بحقّ، محطّ كرامة الله ولطفه وعنايته المطلقة، حتّى قال الله تعالى عنه في سورة الإسراء المباركة: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (الإسراء: 70). ومن هذه النعم الإلهية والألطاف الربّانية التي فضّل الله تعالى بها فئة خاصّة من عباده المكرمين، الموسومين بصفة "الولاية" و"الأولياء"، فكانت بمثابة المنح الربانية، والعطايات الغيبية التي من خلالها يتلمّسون حضور الله أكثر فأكثر في حياتهم، هي "الكرامات".

* ما هي الكرامة؟
الكرامة هي أمر خارق للعادة, وهي غير مقرونة بدعوى النبوّة ولا هي مقدّمة لها، يكرّم الله تعالى بها أولياءه الصالحين، وعباده المخلصين، لما هم عليه من طهارة القلب وصفاء السريرة وشدّة الالتزام بالشريعة وأحكامها فوصلوا "بعبوديّتهم لله تعالى درجة جعلتهم أصحاب ولاية تكوينيّة، ومكّنتهم، بإذن اللّه، أن يؤثّروا في حوادث هذا العالم وأن تصدر منهم الكرامات وخوارق العادات"(1)، فغدا لديهم، على قدر مرتبتهم المعرفيّة والإيمانيّة، والمعنويّة، نوعٌ من التصرّف في عالم التكوين. ولكن، لا على نحو الاستقلال وإنّما بإذن من الله تعالى، وبمشيئته.

* الفرق بين المعجزة والكرامة
المعجزة، وإن كانت هي أيضاً فعلاً خارقاً للعادة كالكرامة، ولكنّها تمتاز عنها بأنّها مختصّة بالأنبياء، وثمرتها تعود دائماً على الغير لا على النبيّ، وهي تأتي في مقام التحدّي لإثبات صدق دعوى النبيّ. يكون النبي قاطعاً بها متيقّناً منها وغير شاكّ فيها، وهو مأمور ومكلّف بإظهارها وبيانها على الملأ. بخلاف الكرامة التي تختصّ بالوليّ لا بالنبيّ، وفائدتها محصورة به بشكل عامّ، وهو غير قاطع بشأنها وغير متيقّن من صحّتها خوفاً أن تكون مكراً أو استدراجاً أو شيطنةً. لذا، الوليّ على عكس النبيّ مأمور بإخفاء الكرامة وسترها إلّا في موارد الضرورة والإذن الإلهيّ. بشكل عامّ يمكن أن نخلص إلى أنّ شرائط الكرامة موجودة في النبوّة وليس العكس.

* الكرامة ليست خرقاً للنظام الكوني
قد يبدو للبعض أنّ الكرامات أمر غير حقيقيّ، وأنْ لا وجود لها في الواقع، وأنّها أمرٌ من نسج مخيّلة الإنسان المحلّقة زوراً في عالم المعنويّات والمغيّبات، معلّلاً ذلك بأنّه أمر ينافي أبسط القواعد المنطقيّة والعقليّة، فضلاً عن النظام الطبيعيّ السائد المحكوم لقانون السببيّة والمسببيّة، أو ما يصطلح عليه بقانون العليّة والمعلوليّة. ولكنّ الحقيقة غير ذلك، فالكرامة كالمعجزة ليست خرقاً لقانون العليّة والمعلوليّة، بل هي عين الخضوع والمحكومية لهذا القانون، لأنّ قانون العليّة حاكم على عالم الغيب والشهادة معاً وفي كلّ عالم بأدواته، وليس محصوراً بعالم الدنيا فقط، وبالتالي فإنّ الكرامة ليست خروجاً عن حدّ هذا القانون العامّ، بل هي ظهور لقانون العليّة الحاكم على عالم الغيب وبصور غير الصور الماديّة والطبيعيّة التي ألفناها أو اعتدنا عليها.

* شواهد قرآنيّة
الشواهد القرآنيّة على صحّة الكرامات وإمكانيّة وقوعها عديدة ومتنوّعة، منها على سبيل المثال لا الحصر.

1 - أهل الكهف:
ما جرى على أهل الكهف الذين قال الله تعالى بشأنهم: ﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (الكهف: 13)، حيث فرّوا من ظلم الملك الكافر الذي كان في زمانهم ﴿فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ (الكهف: 16) إلى بعض الجبال، فكانت كرامتهم أن أنامهم الله ﴿وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (الكهف: 25) مع أنّهم ليسوا بأنبياء ولا رسل.

2 - السيّدة مريم عليها السلام:
هذه الصدّيقة، التي هي باتّفاق الجميع ليست من الأنبياء والرسل، قد أجرى الله تعالى على يديها العديد من الكرامات والخوارق، بدءاً من تمثّل الروح الأمين لها، كما قال تعالى: ﴿فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (مريم: 17)، إلى الحمل الذي حملت به دون أن يمسسها بشر ﴿قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (آل عمران: 47)، إلى أن حانت ساعات الوضع فابتعدت عن أهلها إلى مكانٍ خالٍ من الجهة الشرقية، وجلست إلى جانب شجرة من أشجار النخيل التي لا ثمر فيها، فحصل معها كرامات إلهية، منها تساقطُ الرطب عليها من النخلة غير المثمرة لمّا هزّتْ جذعها ﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً (مريم: 25)، وغيرها من الكرامات بحقّها سلام الله تعالى عليها.

* عنده علم من الكتاب
ومن الكرامات التي تحدّث عنها القرآن الكريم أيضاً قصّة من عنده "علم من الكتاب"، الذي أتى لسليمان عليه السلام بعرش بلقيس قبل أن يرتدّ إليه طرفه؛ ﴿قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ (النمل: 40). ومن المسلّم به أنّه ما كان نبيّاً ولا رسولاً. وغيرها الكثير، من الشواهد والقصص القرآنيّة، التي تبيّن مكانة ومنزلة هؤلاء الأولياء عند الله، وما أجراه الله تعالى على أيديهم من الأمور الخارقة للعادات الطبيعية، مع أنّهم ليسوا رسلاً ولا أنبياء.

* أنواع الكرامات
يمكن أن نصنّف الكرامات إلى نوعين هما:
1 - الكرامات الحسِّيّة.
2 - الكرامات المعنويّة.


وإن كان أكثر الناس لا يهتّمون إلّا بالكرامات الحسّية من قبيل: التكلّم مع الموتى، والإخبار عن المغيّبات، والمشي على الماء، واختراق الهواء، وطيّ الأرض، والاحتجاب عن البصر، وإجابة الدعاء وغيرها من الكرامات التي يكون طابعها وموردها حسّياً في الأغلب، إلّا أنه يوجد، في الحقيقة، نوع آخر من الكرامات، وهي المعنوية، التي لا يعرفها ولا يهتمّ بها إلّا الخواصّ من عباد الله المخلصين.

* كرامات الخواص... معنويّة
وهي المحافظة على آداب الشريعة والتمسّك بها، مهما نالوا من الفيوضات الإلهية والعطاءات الغيبية، ومنها:
- التوفيق الدائم للإتيان بمكارم الأخلاق، واجتناب سفاسفها.
- المحافظة على الواجبات الإلهية.
- المسارعة إلى الخيرات.
- إزالة الغلّ والحقد تجاه الناس، وعدم سوء الظنّ بهم.
- طهارة القلب، بشكل عامّ، من كل صفة مذمومة وتحليته بكلّ صفة حميدة.
- مراعاة حقوق الله في نفسه وفي الأشياء.
- تفقّد آثار ربّه في قلبه، ومراقبة نفسه عند خروجه ودخوله.

فهذه، وغيرها الكثير أيضاً، تعدّ من كرامات الأولياء المعنوية التي لا يدخلها المكر والاستدراج، بل هي دليل على الوفاء بالعهد الإلهيّ، وصحّة القصد إليه، والرضى بالقضاء وعدم طلب أيّ شيء من حظوظ النفس التي يمكن أن تُرديه في أيّ لحظة في أودية الهلاك والضياع. فيكون جلّ اهتمامه وتركيزه منصبّاً على علاقته بربه، من خلال الطاعة والعبوديّة المطلقة له، والنظر إلى وجهه الكريم من خلال آياته الباهرة المبثوثة من حوله والتي تهدف إلى تعريف الإنسان بربّه وإبقاء العُلْقة الروحيّة والمعنويّة قويّةً وحاضرةً دائماً معه. فلا يغيب عنه، ولا يغفل عنه قيد أنملة مُتلهياً بكرامات حسّية هي أقرب إلى الفتنة منها إلى الكرامة، لما تحمله من مخاطر الضياع والانحراف عن جادّة التوحيد الخالص.

* الالتزام بالشريعة ضابطة المقامات
يُروى أن أبا يزيد البسطامي قال في أحد الأيام: "لو نظرتم إلى رجل أعطي من الكرامات حتّى تربّع في الهواء، فلا تغترّوا به حتّى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ الحدود وأداء الشريعة"(2).

ومن هنا نلاحظ أنّ الإمام الخميني قدس سره قد وضع قانوناً عامّاً ومعياراً واضحاً، من خلاله يتبيّن الإنسان أنّه من أهل الحقً والكرامات الحقّانيّة، أو من أهل الباطل والكرامات النفسيّة والشيطانيّة، عندما جعل مراعاة الظاهر والالتزام بالشريعة الغرّاء ميزاناً وضابطةً لتمييز المقامات والكرامات المعنوية الإلهية عن غيرها حين قال:
"واعلم... أن طيّ أيّ طريق في المعارف الإلهية لا يمكن إلّا بالبدء بظاهر الشريعة، وما لم يتأدّب الإنسان بآداب الشريعة الحقّة، لا يحصل له شيء من حقيقة الأخلاق الحسنة، كما لا يمكن أن يتجلّى في قلبه نور المعرفة وتتكشّف له العلوم الباطنيّة وأسرار الشريعة. وبعد انكشاف الحقيقة وظهور أنوار المعارف في قلبه لا بدّ من الاستمرار في التأدّب بالآداب الشرعيّة الظاهريّة أيضاً. ومن هنا نعرف بطلان دعوى من يقول: إنّ الوصول إلى العلم الباطن يكون بترك العلم الظاهر، أو يقول: لا حاجة إلى الآداب الظاهرية بعد الوصول إلى العلم الباطن. فهذه الدعوى ترجع إلى جهل من يقول بها، وجهله بمقامات العبادة ودرجات الإنسانية"(3).


1- الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ناصر مكارم الشيرازي، ج‏20، ص248.
2- موسوعة مصطلحات التصوّف الإسلامي، د. رفيق العجم، ص784.
3- الأربعون حديثاً، الإمام الخميني قدس سره، الحديث الأول، فصل في العزم، ص31.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع