إيفا علوية ناصر الدين
وقفة مع الذات لا بد منها قبل حلول شهر رمضان المبارك،
هذا الشهر الكريم المليء بالفرص الإلهية للتوبة والعودة إلى الله فهو باب المرور
إلى النجاة يفتحه الله لنا في كل سنة فهل نستفيد منه أو نضيعه؟
وهل نعترف إذا كنا قد ضيعناه؟ سؤال موجه للجميع وهو دعوة للوقوف لحظات مع أنفسنا
لنتأمل في أعمالنا في هذا الشهر الكريم في السنة الفائتة ونعترف إذا كنا قد أخطأنا
وضيّعنا أيامه ولياليه النورانية من دون أن نقطف من خيراتها وبركاتها زاداً يغنينا
في الدنيا والآخرة. هذا السؤال الذي وجهناه إلى بعض الأخوة والأخوات والذين ابدوا
الاستعداد للإجابة عليه وكانت لديهم الجرأة على ذلك لم يكن الهدف منه انتزاع بعض
الاعترافات فقط بل كان المقصود عرض الأسباب التي تقف وراء تضييع أوقات شهر رمضان
وتحديد القرارات التي ستتخذ لتدارك ما فات.
عندما يكون الاقتناع بأن الاعتراف بالخطأ فضيلة موجوداً وان وقوع الاعتراف يعني
وقوع نية التصحيح يتبدد الخجل وتزول الرغبة في إخفاء الحقيقة والدليل على ذلك جواب
الأخ محسن وهو طالب جامعي يتابع دروسه في الجامعة قبل الظهر، وفي شهر رمضان لم تكن
مشكلته الوقت الذي يتطلبه الحضور في الجامعة أو الوقت الذي يخصصه للدراسة بعد الظهر
فلم يُعِقْه هذا الموضوع عن التفرغ للعبادة لان وقته كان يسمح له بذلك لكنه كان
يصرف هذا الوقت في أشياء أخرى أهمها مشاهدة التلفاز الذي تسعى معظم محطاته إلى
تقديم العديد من البرامج تحت عنوان إكرام شهر رمضان لإيقاع المشاهدين في أشراكها
وهذا ما حصل مع الأخ محسن الذي ركزّ على هذا الموضوع قائلاً: "لقد واجهت مشكلة
كبيرة في شهر رمضان الماضي وهي تعلقي الزائد بمشاهدة التلفاز ومتابعة المسلسلات
والبرامج التي تعرضها القنوات بمناسبة حلول شهر رمضان وهذا الأمر جعلني أضيّع
الأوقات التي كان يجب أن استفيد منها بالتقرب إلى الله تعالى وطلب المغفرة والعفو".
وأحياناً يدرك الإنسان منذ البداية أن هناك مشكلة تعترض الطريق الذي يريد أن يسلكه
لكنه يسمح لنفسه بالتغافل عن وضع الحلول المناسبة وهذا ينطبق على ما يحصل للبعض في
شهر رمضان حيث يكون لديهم الاهتمام بالاستفادة من أوقات هذا الشهر الكريم لكن عند
مواجهة أي عائق يمنع من تحقيق هذا الهدف ينجرفون في الاستهتار وتكون النتيجة
كالتالي: "انقضى شهر رمضان حاملاً معه سجلاً مليئاً بالإهمال والتقصير وقد كنت
أُسهّل الأمر على نفسي بطمأنتها بأنني سأعوض في اليوم التالي وهكذا كانت تضيع
الأوقات في كل يوم بعد عودتي من الجامعة في النوم والجلوس لمشاهدة التلفاز مع
القيام بقليل من المستحبات لكنني لم أعطِ لنفسي الفرصة للحضور بين يدي الله معترفة،
نادمة وطالبة للتوبة والله يعلم انه كان لدي الوقت لذلك لكنني لم استغله أبداً".
ونتيجة لهذا الاستهتار المتزايد تسيطر الغفلة على نفس الإنسان وتحكم نفوذها ويؤدي
ذلك إلى عدم الالتفات إلى وجود مشكلة يُفترض معالجتها ويحصل الاعتياد على هذا
الواقع دون التفكير بالعواقب لكنه بالرغم من ذلك فلا بد للإنسان من لحظة تذكُّر
وحساب يقضيها مع نفسه. يقول الأخ محسن: "لقد راودني هذا التفكير بعد انتهاء شهر
رمضان مباشرة وفي يوم عيد الفطر بالتحديد وكأنني كنت في غفلة واستيقظت منها. لقد
سألت نفسي إذا كنت استحق الاحتفال بالعيد الذي خصصه الله تعالى لإكرام الصائمين
الذين سعوا وعملوا للفوز بخيرات الشهر الكريم فقد جلست مع نفسي أفكر ملياً بما حصل
معي واعترفت لها أنني كنت مقصراً جداً مدركاً أنني ضيّعت فرصة كبيرة وكنت بحاجة
إليها لتعزيز علاقتي بالله تعالى والتزود من ضيافته وكرمه". لكن الاعتراف
بالتقصير وعدم اغتنام الفرصة لا يكفي ونحن على أبواب استقبال شهر رمضان من جديد
وهذا ما يؤكده الأخ محسن حيث يقول: "كل واحد منا يدرك فضل شهر رمضان المبارك
وقدره لذلك يجب أن لا ندع أنفسنا تقع في الغفلة وبالرغم من أن المغريات التي
تُقدَّم لإفساد روحانية هذا الشهر كثيرة فإنه بعد إدراك التقصير يتوجب معاهدة النفس
على تعويض ما فاتها وذلك باغتنام أوقات شهر رمضان الآتي ودعاء الله بالتسديد
والتوفيق وإبعاد وساوس الشيطان وألاعيبه لتمكين النفس من تحصيل الفائدة المرجوة لأن
الإنسان لا يضمن إذا كان سيعيش إلى شهر رمضان آخر".
قد ينسب البعض التقصير الذي يقومون به في شهر رمضان إلى ظروف يعيشونها كالعمل مثلاً
والذي يتطلب تفرغاً كاملاً لأوقات محددة خلال النهار فهل يشكل عمل الإنسان عائقاً
أمام رغبته باغتنام أوقات شهر رمضان في العبادة والتوجه إلى الله؟ هذا ما لا توافق
عليه الأخت زهراء والتي تعمل في إحدى المؤسسات التربوية فتقول: "لا يجب أن يسمح
الإنسان للظروف أن تتغلب عليه وتجعله يضيّع أوقات هذا الشهر فالإنسان أحياناً يحاول
خلق الحجج لتغطية تقصيره لذلك فقد يردّ البعض التقصير الذي يقوم به إلى أسباب
كالعمل أو غيرها وقد تقول امرأة مثلاً أن الاهتمام بالأطفال يأخذ كل وقتها وهذا لا
يمكن أن يكون سبباً مقنعاً لان العبادة في الأصل هي حالة روحانية يعيشها الإنسان في
داخله وتنعكس على تصرفاته وأعماله". وهذه القناعة التي تمتلكها هذه الأخت لا تتواجد
فقط في الحالة التي يكون فيها عمل الإنسان مريحاً لأنها تعتبر أن لكل عمل التعب
والجهد الخاص به ولذلك فهي تضيف قائلة: "لا يمكن لأحد الإدعّاء انه لم يستطع
تفريغ وقت كافٍ للعبادة بسبب العمل أو أي شيء آخر لأننا نسمح لأنفسنا بتضييع ساعات
في مشاهدة مسلسلات وبرامج أعدت للشهر الكريم على التلفزيون ثم نتأسف على الظروف
التي حرمتنا من استغلال أيام وليالي شهر رمضان والتي أدت إلى عدم انضمامنا إلى
لائحة الساعين لإنقاذ أنفسهم من الشقاء والهلاك".
وهذه الأخت التي ترفض نسبة التقصير إلى العمل أو الإرهاق الذي يسببه العمل ترفض
أيضاً إنكار حقيقة تقصيرها في شهر رمضان: "بالرغم من عملي خارج المنزل والذي
يستغرق بضع ساعات من النهار إلا انه كان بإمكاني القيام بالكثير من الأمور لإحياء
هذا الشهر الكريم وخلق حالة روحانية تتكلل في نهاية شهر رمضان بتغيير كل السيئات
والمفاسد التي تعاني منها النفس لكنني لا أنكر أنني سمحت لنفسي بالتقصير وبدل
استهلاك الوقت المتوفر في الأمور العبادية كالتركيز على قراءة القرآن والأدعية
والمناجاة بشكل مكثف كان يضيع وقت الفراغ في كثير من الأمور اذكر منها مشاهدة
التلفاز". وكلام الأخت هذا يعني أن كل إنسان مهما كانت ظروفه وأحواله تبقى هناك
مساحة يمكن أن يتحرك فيها وعندما يصرّ الإنسان على تسيير إرادته يمكن أن يحقق الهدف
الذي يريد فكيف إذا كان هذا الهدف هو الاستفادة من شهر رمضان الذي هو: "شهر
يدعونا الله تعالى إلى ضيافته ويفتح لنا أبواب رحمته ورضوانه ولذلك فإنه يجب أن
نفكر بعقلانية أكثر فلا ندع أي شيء يبعدنا عن طاعة الله وطلب رضاه وإذا كنا قد
ضيعنا فرص التوبة في السنوات السابقة فإنه علينا أن نضع شهر رمضان المقبل هدفاً
نصيب الاستفادة منه حتى لا نكون من الخاسرين والمتحسرين يوم القيامة".
إذا كان عمل الرجل أو حتى عمل المرأة خارج المنزل لا يمكن أن يشكّل مانعاً أو سبباً
يعرقل إحياء شهر رمضان بما يتناسب معه من الأمور العبادية فهذا يعني أن وضع النساء
المتفرغات لأعمال المنزل ومتطلبات العائلة يجب أن يكون مختلفاً بالنسبة إلى إحياء
هذا الشهر الكريم لأنه يمكن القول وبالرغم من الوقت الذي تتطلبه منهن احتياجات
المنزل والعائلة إن وقتهن يبقى مفتوحاً وخاضعاً لإرادتهن ويمكنهن تنسيقه كيفما يردن
لكن مع ذلك فقد تغرق بعض ربات البيوت في مشكلة إضاعة الوقت وعدم التحكم به لما فيه
من مصلحة لهن ولعائلتهن على السواء. وقد تضيع أوقات شهر رمضان عند هؤلاء في أمور
يمكن تفادي المبالغة فيها بحسن إدارتها. الأخت حنان وهي ربة منزل وأم لأربعة
أولاد لم تتردد في الإجابة على سؤالنا بقولها: "لم أعمل على الاستفادة من أوقات
هذا الشهر الكريم كما يجب فقد كان همي الأكبر في كل يوم تحضير مائدة الإفطار وكان
يضيع وقتي في الانشغال والاهتمام بأمور المنزل والذهاب لشراء الحاجيات المطلوبة
وأيضاً متابعة البرامج التلفزيونية المخصصة لتعليم كيفية تحضير المأكولات المتنوعة
وبعد الظهر كنت أباشر في إعداد الطعام وبعد الإفطار كنت اخصص بعض الوقت للعبادة ثم
أعود للاجتماع مع العائلة في السهرة".
هذا الانهماك في أمور العائلة ومتطلباتها حسب رأي الأخت حنان كان من أجل إرضاء
العائلة باعتبار أن جميع أفرادها يصومون وهناك ضرورة تتطلب تحضير كل ما هم بحاجة
إليه وهذا أمر لا يمكن الاعتراض عليه ولكن ماذا قدمت هذه الأخت من اجل شهر رمضان:
"أما بالنسبة إلى الجانب العبادي فقد اقتصر على أمور لا تتناسب مع ما يمكن أن
يقوم به كل إنسان في هذا الشهر العظيم الذي هو شهر الخير والبركة وشهر الرحمة
والمغفرة ولذلك فإنه من الطبيعي أن نعمل ونجتهد لتحصيل اكبر قدر من الخيرات التي
وضعها الله تعالى في متناول الجميع ومنها غفران الذنوب وإجابة الدعوات".
والغريب هنا هو أن الإنسان بالرغم من إدراكه لعظمة هذا الشهر وبركته فإنه ينجرف في
تضييع هذه الفرصة التي تُقدَّم له بسبب أشياء يمكن التحكم بها لذلك فإن هذه الأخت
تسارع إلى القول: "لا استطيع القول انه لم يكن بمقدوري تخصيص وقت كافٍ للأمور
العبادية فأحياناً وبالرغم من إدراكنا لعظمة هذا الشهر وأهميته فإننا نقوم بتضييعه
لذا فأنا أسأل نفسي الآن الم يكن باستطاعتي تخصيص أوقات خلال النهار لقراءة القرآن
وهذا اقل الممكن ثم ألا يستطيع أي واحد منا تقليل ساعات النوم في الليل من اجل
القيام بالمستحبات وتعويد النفس على الإتيان بصلاة الليل والحضور بين يدي الله بكل
قوانا لعلنا نفوز برضاه!". هنا تجدر الإشارة إلى أن الذي حصل مع الأخت حنان لا
يمكن اعتباره قاعدة عامة تطبّق على جميع ربات البيوت لكن وكما تقول هذه الأخت:
"يمكن أن تقع الكثير من ربات البيوت في هذه المشكلة وذلك نتيجة حرصهن الزائد على
تحضير موائد مميزة للعائلة وهذا ليس مكروهاً إذا لم يتجاوز حدود المبالغة لكن البعض
يضيعن أوقاتاً في أمور مختلفة يمكن استغلالها في العبادة لان الاهتمام بالعائلة
والمنزل لا يستهلك جميع أوقات النهار".
الأخ أبو مصطفى والذي يعمل في احد المؤسسات الإدارية كان لديه وجهة نظر مهمة فهو
يرفض أن يقول انه كان راضياً عن أعماله في شهر رمضان ولا يحب أن يعتبر ما أدّاه
وقام به كافياً وتاماً لذلك فهو يقول: "كان هناك بعض التقصير فالإنسان يتطلع
دوماً نحو الأفضل حتى في مسألة العبادة فلا يجب أن يرضى الإنسان عن نفسه بل المطلوب
أن يعوّدها على عدم الاكتفاء بما تقوم به من أعمال وعبادات حتى تسعى دائماً إلى
تطوير أدائها ولا تتوقف عند درجة واحدة من درجات السير والسلوك إلى الله تعالى بل
يجب أن يكون هدفها الاستمرار للوصول إلى الأكمل والأفضل". وهذا التقصير مهما
بلغ حجمه بحسب رأي أبو مصطفى فإنه يُعتبر تقصيراً يجب أن يتحمل الإنسان مسؤوليته
ويسارع إلى تداركه مؤكداً على أن التقصير ليس له مبررٌ مهما كان سببه: "إن
التقصير في العبادات وخصوصاً في شهر رمضان المبارك الذي هو شهر الضيافة الإلهية لا
ينتج عن العمل مطلقاً كأن يقول الإنسان إن العمل يجهده فيعود إلى البيت مرهقاً وهو
صائم فلا يستطيع أن يقوم بأعمال كان يتمنى القيام بها. هذا ليس صحيحاً لان التعب
يزول بأخذ قسط من الراحة ثم توزع أوقات الفراغ عند البعض بتخصيص جزء للعبادات وجزء
يصرف في أمور مختلفة منها قضاء السهرات في تبادل الأحاديث أو مشاهدة التلفزيون".
وهنا يبادر هذا الأخ إلى الإشارة إلى بعض السلبيات التي نلاحظها في كيفية التعامل
لإكرام الصائمين في شهر رمضان ومن ثم التركيز على بعض الإرشادات التي شدّد عليها
الرسول صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام: "بعد الإفطار تجتمع العائلة مع
بعضها أو مع بعض الأقارب والزائرين ولا يلتفت احد إلى كيفية تثمير هذه السهرات بما
فيه فائدة للجميع ويتم تضييع الوقت من دون أن يفكر احد في الاجتماع لعقد حلقة دعاء
مثلاً وحتى في دعوات الإفطار التي يقوم بها البعض من اجل تحصيل الأجر والثواب فإن
صاحب الدعوة يفكر بكل الأشياء الممكنة لإكرام الضيوف لكنه ينسى أو لا يخطر على باله
دعوة هؤلاء الضيوف للتزود من بركات الاجتماع في شهر رمضان والاستفادة بدعاء الله
ومناجاته أو قراءة القرآن. وهنا أمر آخر يُمكن الإشارة إليه وهو استهتار البعض
بالاستيقاظ في وقت السحور بحجة عدم قدرتهم أو عدم رغبتهم بتناول الطعام في هذا
الوقت متغافلين عن دعوة الرسول صلى الله عليه وآله لذلك ومتناسين إن الهدف من هذه
الدعوة ليس تناول الطعام فقط". وبالإضافة إلى هذه الملاحظات يبقى عند الأخ أبو
مصطفى الحديث عن موضوع مهم ربما يجهله أو يتجاهله الكثيرون: "هناك موضوع أود
التأكيد عليه وهو أن العبادة المطلوبة في شهر رمضان الكريم لا تتضمن فقط الصلوات
والأدعية والمناجاة وقراءة القرآن بل هناك جانب معنوي مهم جداً وهو حسن الخلق
والورع عن محارم الله لذا فإنه يجب أن يكون شهر رمضان فرصة لتحسين الأخلاق واتباع
التقوى في جميع المواقف والأفعال والعبادة تبقى ناقصة إذا كان التركيز فقط على
العبادات ولا تكتمل إلا بتهذيب النفس وإصلاح كل السيئات التي تعاني منها والقيام
بهذا لا يمكن أن يعيقه عمل أو يضيّعه شيء". وبعد هذه
الاعترافات يبقى التأكيد على أن الإقرار يجب أن يتبعه قرار فهل نكون مستعدين عندما
يدق شهر رمضان أبوابنا؟