الشيخ علي جابر
حينما شرع الله سبحانه وتعالى العبادات للإنسان ربطها
بغايات وأهداف محددة هي في الحقيقة مصالح للوجود الإنساني وإن لم يلتفت إليها أو
يفهمها في بعض الأحيان. أما أن التشريع قد ارتبط بغايات وأهداف محددة، فلأن عدم
وجود الغاية يحول العمل إلى عبث ولغو لا جدوى منه ولا فائدة، وهذا ما يستحيل صدوره
من الخالق الحكيم رب السموات والأرض قال تعالى
﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ
﴾ وأما أن هذه الغايات هي مصالح للوجود الإنساني، فلأنه عز وجل غني عن
العالمين أي أنه غني عن كل ما عدا ذاته المقدسة.
* غاية الصوم
هذا المبدأ العام الذي تخضع له جميع العبادات يخضع له الصوم أيضاً، حيث يقول سبحانه:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا
كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.
فإذاً، غاية عبادة الصوم التي نؤديها في شهر رمضان هي الوصول إلى التقوى فيحوز
المؤمن حينئذ على مقام المتقين، وهذا يعني أننا خلال هذا الشهر في امتحان مع أنفسنا
إما أن نفوز وإما أن نخسر.
* خصوصية الشهر
من هنا، لم يكن شهر رمضان كباقي الشهور، ولا أيامه كباقي الأيام، وكذلك في انسجام
كامل مع هذه الخصوصية، فلا يصح أن نبقى نحن فيه كما نحن في غيره. والى هذا المعنى
يشير الإمام الصادق عليه السلام حينما يقول لبعض أصحابه: "لا يكن يوم صومك كيوم
فطرك"، فلا بد من الامتياز فيه، وهو امتياز من الجانب الروحي والمعنوي والعبادي
للإنسان لا امتيازاً في تبدل العادة والانتقال إلى مراسم نهارية وليلية جديدة تنتهي
بانتهاء الصوم.
* توجيه أهل البيت عليهم السلام
إننا حينما نرجع بهذا الشأن إلى كلمات أهل البيت عليهم السلام لنأخذ منها توجيهاتهم
الرمضانية نرى تأكيداً على خصلتين أساسيتين ينبغي أن تكون همنا خلال عبادة الصوم
وهما: الورع وحسن الخلق. ففي الرواية عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال:
"إذا أصبحت صائماً فليصم سمعك وبصرك وشعرك وجلدك وجميع جوارحك". وفي رواية أخرى
يقول عليه السلام: "إن الصيام ليس من الطعام والشراب وحدهما، فإذا صمتم فاحفظوا
ألسنتكم عن الكذب وغضوا أبصاركم عما حرم الله، ولا تنازعوا ولا تحاسدوا ولا تغتابوا
ولا تماروا ولا تخالفوا ولا تسابوا ولا تشاتموا... إلى أن يقول عليه السلام:
"ولتكن أنت أيها الصائم قد طهر قلبك من العيوب وتقدست سريرتك من الخبث ونظف جسمك من
القاذورات وتبرأت إلى الله ممن عداه وأخلصت الولاية له...". فنحن نلحظ هذا
التأكيد على أمرين هما: اجتناب المحرمات والحرص على حسن الخلق.
* الورع عن الحرام
وهذا الاجتناب للمحرمات هو ما يسمى بـالورع كما جاء في الروايات عن أهل البيت عليهم
السلام حيث اعتبروه من خصال المؤمنين السائرين على درب ولايتهم. ومعنى الورع هو
الحرص الأكيد على اجتناب معصية الله تعالى كما جاء عن أمير المؤمنين عليه السلام
حيث قال في تفسيره "إنما الورع التطهر عن المعاصي". إن الورع وصف لنفس
المؤمن الذاكرة لله تعالى والتي تقيس كل شيء بمقياس رضاه تعالى وسخطه، فتسعى جاهدة
لاجتناب كل ما يثير سخطه فيسهل عليها أن لا تفعل المعصية لأنها تشعر بالكره والنفور
منها. فالورع أمر نفساني وباطني هو في الحقيقة الإيمان يظهر على النفس والبدن في كل
الحركات والسكنات، فيقودهما برهبة وخوف نحو الله تعالى.
* قيمة العبادة بالورع
إن أخسر الخاسرين من لم تنفعه عبادته لربه شيئاً، ذلك أنه انشغل عن حقيقتها بما
تعلق به قلبه من زينة الدنيا واكتفى بظواهرها من حركات وسكنات أو جوع وعطش أو سعي
وطواف وغير ذلك... مع أن قيمة العبادة بما تملكه من خشية وورع في قلب صاحبهما. يقول
الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله: "لو صليتم حتى تكونوا كالأوتار وصمتم حتى
تكونوا كالحنايا لم يقبل الله منكم إلا بالورع". فمن الواضح أن هذا الورع هو
الذي يكشف عن صدق العبادة ومقدار التعلق بالله تعالى وعلى ضوئه يكون القبول للعمل
أو عدم قبوله. فإذا أردنا لصومنا أن يلقى القبول من ربنا، وهكذا لصلاتنا ودعائنا
وسائر أعمالنا، فلنعجنه بماء الورع والخشية، فان صلاح العمل هو صلاح المصير وهذه هي
ثمرة الورع ، حيث يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "ثمرة الورع صلاح النفس
والدين". إن عملاً للخالق تبارك وتعالى بلا ورع هو جهد ضائع وصفقة خاسرة و﴿كَسَرَابٍ
بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ
شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ
الْحِسَابِ
﴾. إن المسافر يصلح زاده، والمقبل على امتحان يستعد له، فهلا
أصلحنا الزاد واستعدينا كي لا نسقط في الامتحان.