مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

شهر رمضان.. مائدة الرحمان


السيد عبد الله فضل الله


إن الآية الكريمة التي تدل على تشريع الصوم تتضمَّن توقّع حصول التقوى في قوله ﴿.. لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. والتقوى ملكة نفسانية تؤدي إلى حصول حاجز أمام المعصية، ولرأفة الله بالعباد فإن تأثير الصوم هو توجيه النفس البشرية نحو الكمال والسعادة. وعليه فإنه يجب أن ننظر بعناية إلى الغاية الحكمية في الصوم الذي اهتمت به كل الشرائع بما فيها الوضعية.

فالحكمة الإلهية التي اقتضت ذلك اللطف الربَّاني من خلال وجوب الصوم هي السموُّ بالنفس نحو الكمال الإنساني الذي يحفظ للإنسان دوره الرَّائد في حفظ نفسه ومجتمعه وبالتالي يكون له الدور أيضاً في بناء مجتمعه على أساس حضاري وفاضل، وهنا أتطرَّق إلى عدة نقاط تتضمنها الرحمة الإلهية من خلال الصوم.

النقطة الأولى:
إن الله يدعونا إلى أن نروِّض أنفسنا بحيث تصغر فيها الصفات المذمومة من الأنانية وحب الإثرة والطمع وتجاوز حقوق الآخرين وغير ذلك وتكبر فيها الصفات المطلوبة كالإيثار وحسن الخلق وباقي المشاعر الحميدة، ولا يمكن أن نتصوَّر نفساً متفلتة من عقالها أن تكون لها ذاتٌ رؤوفة تقطر منها العاطفة الإنسانية من دون أن تروَّض على الإحساس بالمعاناة. فإذاً: يجب الإحساس بالمعاناة، لأن في ذلك ترويضاً للنفس، وما ورد في الحديث المشهور عن النبي صلى الله عليه وآله: "إن الله شرّع الصوم ليجد الغنيّ‏ُ مسّ‏َ الجوع فيحنو على الفقير" فالمقصود فيه هو إيجاد القابلية لدى البشر من اجل الشعور مع الآخر، هذا الشعور يأتي بسبب تجربة المعاناة وتلطيف حاجات النفس المادية فتكون أكثر وعياً وواقعية.

وما أحوجنا إلى ذلك في كل زمان، أي إلى الرحمة والمشاعر الحميدة والأخلاق الحسنة كما ورد في حديث رسول الله صلى الله عليه وآله: "إن أحبكم إليّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحسنكم أخلاقاً الموطئون أكنافاً الذين يألفون ويؤلفون". وكم نعاني في المقابل من العقلية الذئبيَّة التي لا تفترق عن البهيميَّة في شي‏ء التي تظلم الإنسان من قبل أخيه الإنسان؛ وان يجعل الفرد هدفه هو السيطرة على الآخر وفرض وجوده بلا عدل ولا إنصاف. ولذلك فإن التقوى الحاصلة من ممارسة الصوم تعتمد على تلطيف حاجات النفس كما سبق، ولا يكون ذلك إلا بالإحساس بالمعاناة أولاً. وهي في شهر الصوم يتقبَّلها الصائم برحابة صدر على أساس أن يمتثل أمره تعالى وليست مفروضة على الصائم من دون أن يدرك الرحمة من خلال هذا التشريع، وهو إدراك فطري لدى المؤمنين الموجَّه إليهم الخطاب القرآني، والبعث النبوي هو رحمة للعالمين كما صاغت تأكيد ذلك الآية الكريمة ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ والإدراك بأن الصوم يتم الامتثال به طاعة لله فيه كامل الصفة العبادية، التي هي بحد ذاتها مطلوبة للكمال الإنساني في قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ.

ولكن إذا قرنَّا هذه العبادة بتوالي الذكر عبر المستحبَّات من الأدعية والصلوات ومنها ما يترافق مع أنات الصوم أي مع المعاناة للجوع والعطش فإن في ذلك تركيزاً في النفس لإدراك حقيقتها من كونها محدودة ناقصة لا كمال مطلق فيها تطلب العون من الله وما في ذلك من اثرٍ في تهذيب الأخلاق. فاقتران الذكر لله عبر المستحبات والصلوات مع الإحساس بالصوم له عظيم ذلك الأثر، وبناءً عليه فإذا أكثر الصائم ما استطاع لهذا المنحى أثناء صيامه فانه يدرك هذه الغاية أكثر، وكم هو مألوف عندما يلتقي الصائمون في أثناء النهار وقد بدا أثر الصوم عليهم في أنهم أدركوا التجرَّد الإنساني بعدم الشعور بالجشع والطمع وغير ذلك من الخلق السي‏ء، وهذا ما يفسِّر سرَّ توجُّه الكثير من المطلوبات الاستحبابية أثناء شهر الصوم.

النقطة الثانية: منفعة الصوم من الجهة التمرينية، ونعني بها ممارسة العمل اليومي أو أي عمل أثناء الصوم، فهذه الحالة يترتب عليها تقوية الإرادة الفردية، وبالتالي الإرادة المجتمعية، وكم تحدّث نفس الإنسان بالتواكل والإهمال والتأجيل؛ وكم هو بحاجة في أي مجتمع إلى تلك الإرادة، وهي تتضمَّن إرادة جهادية ترمي إلى رفع مستوى المجتمع حضارياً.

النقطة الثالثة: وهو المهم بعد ما مرّ ذكره وهي الإحساس بالحاجة إلى عهد جديد وبداية جديدة للإنسان في هذه الحياة، بداية ينطلق منها إلى حياة أصلح من التي سبقت شهر الصوم بواسطة الشحنة الجهادية للنفس التي أحدثها وهي تساعد الإنسان الصائم إذا ما أحسن استخدام التكليف الشرعي كما مر، تساعده على حياة ذات عمل صالح لمجتمع صالح، وهذا يتأتَّى بسبب ما يحدثه ذلك الامتثال من الإشراق النفسي والصفاء الذاتي مما يدعو إلى ضبط حياته أكثر، والاستغفار أهم مورد في ذلك، فإذا استغفر الإنسان ربَّه وكان بعد التوجُّه المخلص له تعالى احدث ذلك راحة في نفسه تمكنه من بداية جديدة. وكم كل فرد منَّا بحاجة إلى إزالة الأدران من نفسه التي تعيقه عن التفكير السليم والانطلاق بشكل سليم في بناء حياته بشكل يرضي الله. فإذاً نرى أن الامتثال بالتكليف الشرعي بالصوم هو عبارة عن نور يضي‏ء للإنسان طريق البناء السليمة، التي تمرُّ عبر عناوين عريضة وهي: الإحساس بالمعاناة، المقترنة مع ذكر الله، التي تؤدِّي إلى غفران الذنوب وتطهير النفوس، وكذلك إلى تقوية الإرادة؛ وهذا بمجموعه يؤدي أيضاً إلى بداية جديدة وانطلاقة خلاقة يحتاج إليها الفرد المسلم ومجتمع الرسالة والأمة الإسلامية. وهذا بحدِّ ذاته مراجعة لتكوين الذات سنة بعد سنة.

ما مرَّ هو بعض الأهداف التي يوصلنا الصوم إليها والله اعلم بسرِّ أحكامه. فما بال الصائمين لا يلتفتون إلى طريقة صيامهم وقد أصبح صومهم جزءاً روتينيّاً من سنوات عمرهم فنجد الاهتمام إلى أمرين: المأكل والمشرب والميل إلى الدعة والتكاسل. الأمر الأوَّل إذا كان بدن الإنسان يتطلب الإقلال من الأطعمة فيجب حينها استغلال فرصة الصوم لتدريب النفس على حاجاتها الواقعية من الطاقة الحرارية. وهذا يحصل بالقليل من الطعام كما ورد في حديث لأمير المؤمنين‏ عليه السلام "حسب ابن ادم بضع لقيمات يسدُّ بها رمقه"، وهذا يدل على كفاية القدر المادي لأجل تحصيل الطاقة الضرورية للجسم، ولكن نرى عكس ذلك، إذ الانشغال بجلب ما لذَّ وطاب وتضييع الوقت لأجله هو السائد، وكم هو قبيح بأن أصبح شهر الصوم هو شهر الطعام والشراب، حتى أصبح مورداً تجارياً هاماً لكثير من المؤسسات في هذا الحقل، واختفت المصلحة الواقعية التي شُرِّع لأجلها الصوم بحيث أصبحت فترته الزمنية وبالاً على الفقراء لغلاء الأسعار، وأصبح غير المسلم يريد أن يدخل سوق التسويق في أسواق المسلمين وهل هذا إلا عين القبح والشطط في التفكير، بل أكثر من ذلك، إذ نرى الإعلام يروِّج للصوم بطريقة فولكلورية عبر مسلسلات ترفيهية وللتسلية ومن ثم ذكر بعض العادات القديمة في كيفية الطعام والشراب والسهرات؛ بل وأقبح ما في الأمر أن نسمع بعض المطاعم يروِّج انه بمناسبة شهر رمضان سيقيم حفلة غنائية أو راقصة.

وفي الآونة الأخيرة ظهرت بدعة الخيم الرمضانية. التي لا هم لها سوى تحصيل المال عبر جمع الصائمين بعد الإفطار في أماكن اللهو والمعصية. واحسب أن هذه المسائل هي ليست بريئة في منشأها، لأن الاستعمار قد دأب قديماً وحديثاً على تحويل الإسلام الحضاري إلى إسلام فارغ المضمون والأهداف لم يبق منه إلا الاسم. فالموائد التي تنشأ لأجل إطعام الفقراء والمساكين في سبيل الله لا ضير فيها بل هي كمال الأجر والثواب، وهو ما يتناسب مع هذا الشهر أما غيرها مما يقصد به العلو والوجاهة فهو ما يتناقض معه. لأن هدف الصوم كما سبق إحساس الإنسان بوضاعته أمام الحق المطلق، لا أن يحصل الإنسان من الفرصة الرمضانية مجالاً لعلوِّ نفسه وبالتالي الإفساد والله يقول ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا. حريّ بنا أن نتأمل في أهداف الصوم الذي يرمي إلى صقل الشخصية المؤمنة لا إلى قتلها.

الأمر الثاني:
العزوف عن العمل والجنوح إلى النوم والتكاسل. صحيح أن المعاناة تتطلب ذلك، ولكن ترويض الجسم على العمل والدأب أكثر في حالة الصوم هو أولى من حيث التمرين والتربية، والجهاد الذي تحتاجه الأمة هو بحاجة على الأخص إلى مثل هذا الترويض، بحيث تصبح امة منيعة لا تهزها الأزمات. أما ما نشهده من بعض برامج العمل في مؤسسات الدولة والمجتمع بحيث تختصر ساعات العمل فيترك ذلك انطباعاً بأن شهر رمضان هو شهر يقل فيه الإنتاج والعمل، وهذا انطباع سلبي وخطير على سمعة الدين، بل على العكس فإنه يجب العمل على خلافه، بان نزيد ساعات العمل حتى ينعكس الانطباع المذكور، مثالنا في ذلك؛ المجاهدون في الثغور، فهل ينامون أكثر أم يتعطلون في سبيل طعامهم وشرابهم أكثر، ونحن نقرأ في الدعاء النهاري في شهر رمضان "واذهب عني فيه النعاس والكسل والسَّامة والفترة والقسوة والغفلة والغرَّة...".

مما تقدم فالله يدعونا إلى ما هو الصالح لنا وهذا يدعونا إلى أن نترك الكثير من المفاهيم الموروثة المغلوطة عن الصوم وهذه دعوة تحتاج إلى الجهاد في سبيلها حتى ترجع حقيقة الصوم إلى ظهورها ووضوحها مما يرتب ذلك الهدف الذي جعل لأجله.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع