اعلم أنّ من عوامل التكبّر، صغرَ العقل، وضعف القابلية،
والضَعة، وقلّة الصبر. فالإنسان لضيق أفقه ما إنْ يجد في نفسه خصلةً مميّزةً حتّى
يتصوّر لها مقاماً ومركزاً خاصّاً. ولكنّه لو نظر بعين العدل والإنصاف إلى كلّ أمر
يُتقنه وكلّ خصلة يتميَّز بها، لأدرك أنّ ما تصوّره كمالاً يفتخر به ويتكبّر بسببه،
ليس كمالاً أصلاً، أو أنّه كمال لا يكاد يساوي شيئاً إزاء كمالات الآخرين.
*المعرفة صفة القلب
إنّ العارف الذي ينظر من خلال عرفانه إلى الناس جميعاً بعين الازدراء والتكبّر، لا
يملك شيئاً من المعارف الإلهيّة، سوى حفنة من المفاهيم التي لا تعدو كونها حجباً
تغطّي الحقائق، ومصطلحات ذات بريقٍ خادع بعيدة كلّ البعد عن معرفة الله وعن العلم
بأسمائه وصفاته.
إنّ المعرفة صفة القلب. وعلم العرفان علم عمليّ لا مجرّد معرفة نظرية وحياكة
مصطلحات. فكثيرون ممّن يُسمَّون بالعرفاء والعلماء لم يتأثَّروا قلبيّاً بهذه
الاصطلاحات، بل كان لها تأثير عكسيّ عليهم.
أيّها العزيز، إنّ العرفان بالله يحيل القلب إلى محلٍّ تتجلّى فيه
أسماء الله وصفاته وينزل فيه السلطان الحقيقيّ الذي يمحو آثار التلوّث من القلب.
*لا تكن وارثاً للشيطان
يا طالب المفاهيم، ويا مضيّع الحقائق! تمهّل، وانظر إلى ما لديك من المعارف، فما
الأثر الذي تراه من الحقّ وصفاته في نفسك؟
فكما إنّ العلوم الطبيعيّة والرياضيّة ليس لها عرفان بالله، كذلك فإنّ علمك الذي
حجَبَتْه الاصطلاحات والمفاهيم والاعتبارات، لا يرجى منه تغيير في نفس ولا حال، بل
إنّ تلك العلوم الطبيعيّة والرياضيّة أفضل ممّا تملكه من العلم، لأنّ تلك العلوم
تنتج شيئاً، وليس لعلمك ناتج، أو أنّ ناتجه معكوس. فأنت لم تعثر على الطريق إلى
الحقائق والمعارف من هذه الاصطلاحات، بل صارت مدعاة للتفاخر والتكبّر على العلماء
الحقيقيين. إنّ المعارف التي تزيد من كدر القلب ليست معارف. والويل لمعارف تجعل
عاقبة صاحبها وارثاً للشيطان.
*أحطُّ الأعمال خيرٌ من عملك
إنّ الحكيم إذا عرف نسبته إلى الخلق وإلى الحقّ، خرجت الكبرياء من قلبه واستقام
أمره.
يقول الحكيم المتألّه، المحقّق الداماد، رضوان الله عليه: "الحكيم هو من كان جسده
كالرداء له، متى ما شاء خلعه".
فيا طالب الدنيا وسارق المفاهيم، إنّ عملك هذا لا يدعو إلى الفخر والتكبّر. إنّ
المسكين لقلّة صبره وصِغَرِ عقله وقلّة استعداده وضيق قلبه وصدره، ينخدع حتّى
بنفسه، فيرى لنفسه مقاماً، وقد امتزج فيه حبّ النفس وحبّ الدنيا مع هذه المفاهيم
فولد مولوداً مشوّهاً. وعلى الرغم من كلّ هذه العيوب يحسب نفسه مرشد الخلائق وهادي
الأمّة إلى النجاة، ومالك سرّ الشريعة، بل قد تتجاوز وقاحته الحدود، فيرى نفسه في
مقام الولاية الكليّة.
فلو كانت هذه هي نتيجة العلم، دون أن تستطيع هدايتك، ودون أن تبعد عنك المفاسد
الأخلاقيّة والسلوكيّة، فإنّ أحطّ الأعمال خير من عملك؛ لأنّ تلك نتائجها عاجلة
ومفاسدها الدنيويّة والأخرويّة أقلّ. وأنت أيّها المسكين لا تنال سوى الوزر والوبال
والمفاسد الأخلاقيّة والأعمال القبيحة.
*عبيد الدنيا
ولكن الأحطّ من هذا والأصغر مكانةً هو ذلك الذي يتكبّر ويتباهى بالأمور الخارجية،
مثل المال، والجاه، والخدم، والحشم والقبيلة. فهذا المسكين بعيد عن الخلق البشريّ
والأدب الإنسانيّ، فارغ اليد من كلّ العلوم والمعارف. فما أضيق عقله وأشدّ ظلام
قلبه! إنّه يقتنع من كلّ الكمالات باللباس الجميل، ومن كلّ جمال بالقُبّعة والرداء،
يرتضي هذا المسكين مقام الحيوانيّة ويقبل بحظّها، ولا شكّ في أنّ من لا همّ له سوى
الدنيا، لا يكون إلّا عبداً للدنيا ولأهلها.
*فرقٌ بين تواضع وتواضع
واعلم أنّه قد يتكبّر فاقدُ الكمال على واجد الكمال، كأن يتكبّر الفقير على الغنيّ
والجاهل على العالم؛ بدافع الحسد. فكما يكون العجب مدخلاً للتكبّر، فإنّ الحسد
يُعتبر مدخلاً إليه أيضاً. فالإنسان الذي يفتقر إلى كمالٍ موجود في غيره، يندفع إلى
أن يحسده، ثم يصير سبباً لكي يتكبّر عليه ويسعى جهده لإذلاله وإهانته.
روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "الكبر قد يكون في شرار الناس من كلّ
جنس...، ثم قال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرَّ في بعض طرق المدينة
وسوداء تلقط السرقين(1)، فقيل لها: تنحّي عن طريق رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم فقالت: إنّ الطريق لمعرض. فَهَمَّ بها بعضُ القوم أن يتناولها، فقال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم: دعوها فإنها جبارة"(2).
وقد تظهر هذه الصفة في بعض أهل العلم، مبرّراً أنّ التواضع أمام الأغنياء مذموم
وفيه منقصة للإيمان. إنّ المسكين لا يميّز بين التواضع لغنيّ لغناه والتواضع لغير
ذلك. فمرّة يتواضع الإنسان مدفوعاً برذيلة حبّ الدنيا والانجذاب نحو طلب الجاه
والمقام. فليس هذا من خلق التواضع في شيء، بل إنّه لا يتواضع للفقراء، إلّا إذا طمع
فيهم بشيء أو أراد منهم شيئاً.
ومرة أخرى يكون التواضع من طبع الإنسان داعياً له إلى احترام الناس والتواضع لهم،
فقراء كانوا أم أغنياء، مرموقين كانوا أم مغمورين. فتواضع هذا الإنسان خالصٌ من غير
شائبة، وروحه طاهرة مطهّرة، ولم يجذب قلبه الجاه والمقام.
وأخيراً، لا ننسى أنّ مكائد النفس وأحابيلها تندسّ بخفاء في النفس الإنسانيّة؛
بحيث إنّ المرء لا يسعه إلّا أن يستعيذ بالله منها.
1- السرقين: الزبل.
2- أصول الكافي، الكليني، ج2، ص309.