مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

من تجليات الولاية: التواضع

الشيخ محمد شقير


دروس في الأخلاق ترمي إلى الارتقاء بمستوى الواقع السياسي لقناعتنا أن القيم الأخلاقيَّة والدينيَّة هي السبيل لإصلاح الواقع السياسي، كما أنَّها تُسهم في رفد واقعنا العملي بمجموعة من المواعظ المعنويَّة والعِبَر الأخلاقيَّة التي نراها حاجة ملحّة لكلّ العاملين في سبيل الله تعالى ولأي عملٍ يهدف إلى تحمّل الأمانة الإلهيَّة وخدمة المجتمع والإنسان. إن التواضع من أهم الصفات التي ينبغي للمتصدي للولاية أن يتحلى بها لأن من أمسك بشعبة من شعب الولاية إنما أمسك به ليقود الناس إلى الله، ويأخذهم إلى نوره وهداه، فإذا لم يستطع أن يزرع بذرة التواضع في قلبه كيف يبذرها في قلوب الآخرين، وإذا انتصبت سدود الكبر والرفعة في نفسه كيف يصل ماء الهداية إلى نفوس من حوله، إن من تكبَّر على الناس لا يمكن أن تسلمه قيادها ومن ترفَّع عنهم لن يترك فيهم أثراً.

إن من أخذ بخيط من ثوب الولاية يجب أن يحكي ما فيه ومن تولى أمراً يجب أن يحمل صفة متوليه، إن من تصدى لأي شأن من شؤون الولاية عليه أن يظهر بسلوكه الولائي حقيقة من أخذ منه الولاية وان يعكس صفته ويجلو محجته، لأنه إنما سار بين التخلق باسم ولايته وباسم الدعوة إلى عروته فإنما حاله كحال المرآة التي تعكس صورة من يتراءى فيها فإن المرآة بقدر ما تكون نظيفة بقدر ما تظهر حقيقة من يتبدَّى فيها وبقدر ما تظهره على أجمل صورة وأحسن محيَّا، أما إذا كانت تعلوها الشوائب وتملؤها الحواجب فليس فقط أنها لن تبرز حقيقة ما يتراءى فيها بل إن ما تظهره إنما تظهره مشوهاً وتقدمه منفراً لا يأنس به ناظر ولا يحلو لعين. إن من لا يحمل في نفسه تلك المرآة ولا يظهر تلك التجليات فحتى لو كان يأمر وينهى ويُطاع ولا يُعصى فهو لا يصدر عن تلك الولاية ولم تنل نفسه العناية لأن حقيقة الولاية تنفر من التكبر وباطن الهداية يختلج بالتواضع، فمن فقد التواضع فقد نوراً من نور الولاية، ومن فقد هذا النور وقعت نفسه في الظلمة وأصبح أسير العتمة. إن من يدعو إلى الله ويسير بسيرة رسول الله صلى الله عليه وآله ويصدر عن أهل ولاية الله يجب أن يعكس صفتهم، ومن صفتهم التواضع الذي كان يرى في بسط يدهم وقبضها وفي خفضها ورفعها.

أنظر أيها الحبيب إلى مولاك مولى المتقين علي عليه السلام عندما كان والياً كان يمشي في الأسواق يرشد الضال ويعين الضعيف ويمر بالبائع والبقَّال فيفتح عليه القران ويقرأ عليه قوله تعالى: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا . ويقول: نزلت هذه الآية في أهل العدل والتواضع من الولاة وأهل القدرة من سائر الناس. وقد ورد عنه عليه السلام : " إن الرجل ليعجبه شراك نعله فيدخل في هذه الآية" (1)، وجمعاً بين الروايتين يكون المقصود بالرجل هنا الذي يكون من أهل العدل والتواضع من الولاة وأهل القدرة من سائر الناس. والمقصود بالرواية الأولى هو أن تلك الآية قد نزلت في أولئك الذين ينبغي أن يكونوا عادلين في تعاملهم مع الناس بحيث لا يصدر منهم ظلم أو أذية وهو المقصود بأهل العدل، أي الذين ينبغي أن يصدر العدل منهم، وأيضاً فإن الآية قد نزلت في أولئك الولاة الذين ينبغي أن يكونوا متواضعين مع الرعية وهي تخاطب كل من كان له نصيب من الولاية والذي يساعد على هذا التعميم العبارة الأخيرة في الرواية " وأهل القدرة من سائر الناس" ، أي أن كل من أخذ بعضاً من أغصان الولاية وكل من تصدى لشأن من شؤون الولاية وكل من تحمل مسؤولية أو عملاً باسم الولاية يجب أن يكون متواضعاً، وإلاَّ إذا لم يكن متواضعاً وكان مريداً للعلو والرفعة والتكبر فإنه لن يكون من أهل الآخرة بل سيكون من أهل الدنيا ومن محبيها ومريديها لأن أهل الآخرة هم الذين سقطت الدنيا من أعينهم وأماتوا شهوتها في أنفسهم فعلام يتكبرون ولما يستعلون، أمن أجل جاه أم من أجل مرضاة الله، فإن الجاه من الدنيا المذمومة وفي الاستعلاء غضب الله وليس رضاه. وعليه فإن ذاك الرجل من الولاة أو كل من امتلك قدرة من سائر الناس إذا نظر ولو إلى شراك نعله فاستشعر العجب الذي ينبت إرادة العلو والرفعة فهو من الذين يريدون علواً في الأرض، بل إن مجرد استشعار العجب سوف يترك ذلك الأثر.

أيها الحبيب، إن هذه الآية الكريمة تجعلنا أمام امتحان كبير وموقف خطير، فمن لا يملك ميزة أو أكثر عن الآخرين سواء في موقعه السياسي أو الاجتماعي أو الإداري أو في مركوبه أو منزله أو أي شأن من شؤونه من لا يرى انه يتميز عن أقرانه في منطقه أو في أفكاره أو في جدارته.. فحتى لو كان هذا التميز واقعاً وليس وهماً فهل سيصبح سبباً لإرادة العلو والرفعة وهل سيصبح رافعاً لفرض الرأي أو إرادة التسلط أو حب السلطنة أم أن ذلك سيصبح حافزاً للتواضع لأنه إن كان عنده ما عنده فهو من الله تعالى وشكر الله تعالى بالتواضع إلى خلقه لا بالتكبر عليهم ولا بالترفع عنهم ولا بإرادة العلو والرفعة. وهنا ما يؤدي إلى الحرمان من الآخرة هو مجرد الإرادة القلبية، أي أن من يميل بقلبه حتى لو لم يبرز ذلك الميل على جوارحه، وهو فرض صعب للغاية فإنه محروم من الآخرة، ولذلك يروى أن الإمام الصادق‏ عليه السلام تلا هذه الآية وجعل يبكي ويقول: " ذهبت والله الأماني عند هذه الآية" (2).

أيها الحبيب، انظر بعين القلب وسل نفسك لما تترفع؟ ومن أجل ما تتكبر؟ فإن كنت تفعل ذلك من أجل ما عند الله فأنت تعلم أن ما عند الله لا ينال بغضبه، وإن كنت تفعل ذلك لتنال مكانة عند الناس فإن الناس تنفر ممن يتعالى عليها وتنظر إليه بازدراء، وإن كان ذلك من أجل أن تكسب محبتهم فإنه يوجب بغضهم وعداوتهم؛ إلاَّ إذا أردت أن تقول لنفسك انك أرفع شأناً وأكرم ممن تترفع عليهم فتصبح كمن يشرب السم القاتل ويوهم نفسه انه الماء العذب، وتكون ممن يطلب الكرامة بغير سببها ويزرع العزة بغير بذرها.
|
أيها الحبيب افتح مسامع قلبك لقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ لتدرك أن الكرامة والهوانة بيد الله تعالى وان الرفعة والضعة منه عز وجل، وانظر إلى كلام أولياء الله حيث يقولون أن من تعزز بغير الله ذل، فمن سعى لنيل المكانة والعزة من خلال تلك الأسباب الدنيوية لن يصل إلاَّ إلى الذل في الدنيا والآخرة، لأن العزة لله ولا تنال إلاَّ بطاعته والتقرب منه عزَّ وجل. أما علي عليه السلام فقد كان يمشي في خمسة حافياً ويعلق نعله بيده اليسرى، يوم الفطر والنحر والجمعة، وعند العيادة وتشييع الجنازة، ويقول إنها مواضع الله وأحب أن أكون فيها حافياً، انه علي‏ عليه السلام آية التواضع الذي كان يحب أن يكون حافياً في تلك المواضع، مواضع الله لأنك كلما تواضعت أكثر في مواضع الله كلما لان قلبك للإيمان والتقى، وهنا في مواضع الله يُعلم من همّه الرفعة والعلو وإظهار القدرة والعزة ومن همّه التواضع لله لأن القلوب إما أن تنكسر عندها أو تبقى قاسية عاصية على الانكسار، فالقلب الذي لا ينكسر هو القلب الذي أراد العلو والقلوب المنكسرة هي القلوب التي ألانها التواضع. إن من حرم التواضع يحرم حتى من بركات وآثار تلك المواضع، بل يحرم من كثير من بركات العبادة والأعمال التي يقوم بها لأن جوهر العبادة الانكسار والخضوع لله ومن كان فاقداً لهما كيف يستطيع عبادة وتسكن قلبه نوراً.

إن مولى المتقين عليه السلام لا يريد أن يقول لنا إن بقية المواضع ليست مواضع الله بل ما يريد قوله أن هناك مواضع أكثر من غيرها تورث القلب ذلة وتهبه انكساراً وإلاَّ فإن كل المواضع هي مواضع الله والعالم كله محضر الله وأي حرف من كتاب الوجود لا ينطق بالضعف والمسكنة والفقر والحاجة إلى الله تعالى. إن التواضع في كل المواطن هو سيرة أولياء الله تعالى الذين كانوا يتواضعون في جميع شؤونهم، ولا ريب أن تواضع الأبدان في الملبس والمأكل وغيرهما يترك أثره في القلب، فقد رُئي عليه السلام وعليه إزار خلق، فقيل له في ذلك فأجابهم: "يخشع له القلب وتذل به النفس ويقتدي به المؤمنون" .

ويقول عليه السلام: " والله لقد رقعت مدرعتي الثوب من الصوف هذه حتى استحييت من راقعها، ولقد قال لي: ألا تنبذها عنك؟ فقلت: اغرب عني فعند الصباح يحمد القوم السُرى السير ليلاً" . لكن التواضع الأكبر هو التواضع مع الخلق وخصوصاً إذا كان المتواضع ممن أخذ بطرف من أطراف الولاية فيكون تواضعه زكاة لنفسه وهداية لغيره وشهادة صدق في الولاية، انه نال من صفة أولياء الله تعالى وتخلَّق بأخلاقهم فلامس حقيقة الولاية، ولاية أهل البيت عليهم السلام والأئمة المعصومين عليهم السلام، حيث يقول صادقهم عليه السلام أن علي بن الحسين عليه السلام قد مرَّ على المجذومين وهو راكب على حماره وهم يتغدون فدعوه إلى الغداء فقال: أما إني لولا إني صائم لفعلت، فلما صار إلى منزله أمر بطعام فصنع وأمر أن يتنوقوا فيه أي يكون طعاماً لذيذاً ثم دعاهم فتغدوا عنده وتغدى معهم(3).


(1-2) نور الثقلين، ج‏4، ص‏114.
(3) تفسير القمي، ج‏2، ص‏146.

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع