آية الله الشيخ عبد الله جوادي آملي
تحدث آية الله جوادي آملي في العددين السابقين عن جذور المحبة وأنواعها، وذكر كيف يمكن أن يهتدي الإنسان للمصداق الحقيقي للمحبوب الواقعي وذكر بعض آثار المحبة الإلهية التي تعين الإنسان على ترك المعصية وعلى الطاعة حيث تكون معيار الإيمان والكفر، ويُكمل في هذا العدد تعداد آثار المحبة والإشارات المرتبطة بالمحبّة.
6ـ آثار المحبة الإلهيّة
هـ- شوق العبادة والعبودية
بعض الناس يرغب بطاعة الله سبحانه وعبوديته وينفر من العصيان والطغيان، وبعضهم الآخر على عكس ذلك. والسرّ في ذلك أن الله تعالى جعل الإيمان والطاعة محبوبتين للمؤمنين وزرعهما في قلوبهم وجعل الكفر والفسق والمعصية أموراً تنفر منها أفئدتهم: ﴿حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ﴾ (الحجرات: 7). يقول الإمام الصادق عليه السلام: "كان فيما ناجى الله عزّ وجلّ به موسى بن عمران عليه السلام أن قال له: يا ابن عمران، كذب من زعم أنه يحبني فإذا جنّه الليل نام عني، أليس كلّ محبّ يحبّ خلوة حبيبه؟"(1).
و- صيرورته محبوباً
يقول الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا أحبّ الله عبداً من أمّتي قذف في قلوب أصفيائه وأرواح ملائكته وسكان عرشه محبّته ليحبّوه فذلك المحب حقاً طوبى له ثم طوبى له وله عند الله شفاعة يوم القيامة"(2). طبعاً يمكن استنباط جذور هكذا ثواب محمود من الآية الشريفة ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا﴾ (مريم: 96).
7ـ معيار دخول الجنة والنار
نُقل عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قوله: "حُبّ عليّ بن أبي طالب عليه السلام حسنة لا تضر معها سيئة وبغضه سيئة لا تنفع معها حسنة"(3). وقد وردت، في ذيل هذا الحديث، روايات كثيرة تتحدث عن أن الولاية هي شرط قبول الأعمال، إلا أن القسم الأول منها يحتاج إلى مزيد من التأمل حيث يمكن ذكر عدة توجيهات له:
الأول: محب علي عليه السلام لا يقترف المعصية؛ أي أن محبته تصون الإنسان من الوقوع في المعصية. ومن هنا فإن مرتكب المعصية ليس على علاقة بالإمام عليه السلام أو أنه على علاقة قليلة.
الثاني: صحيح أن محبَّ أمير المؤمنين عليه السلام الذي يرتكب المعاصي في فروعات الأحكام يلقى في جهنم ويعذَّب بمقدار عصيانه، إلا أنه لا يُخَلَّد في جهنم؛ لأنه مطيع لله تعالى في أصول وقواعد الطاعة والعبودية.
الثالث: إذا كان مُحب عليٍّ صادقاً في حبّه، فإنه يوفَّق للتوبة ولا تؤثر معاصيه السابقة عليه (4).
الرابع: إن بعض الروايات أمثال "خلق الله الجنة لمن أطاعه وأحسن ولو كان عبداً حبشياً وخلق النار لمن عصاه ولو كان ولداً قرشياً"(5) حاكم على هذا النوع من الروايات.
أما المقصود من حكومة بعض الروايات على هذه الأنواع من الروايات فهو أن معيار وملاك دخول الجنة أو النار، هو طاعة الأوامر الإلهية وعصيانها فقط. وقد أوضح الإمام الباقر عليه السلام هذا المعيار لشيعته من خلال رسالة أرسلها مع جابر، قال: "يا جابر، بلّغ شيعتي عني السلام وأعلمهم أنه لا قرابة بيننا وبين الله عزّ وجلّ ولا يتقرب إليه إلا بالطاعة له. يا جابر، من أطاع الله وأحبنا فهو ولينا ومن عصى الله لم ينفعه حبّنا"(6). وجاء في وصية أخرى: "وَيْحَكُم لا تغتروا، ويحكم لا تغتروا"(7).
8ـ الاختلاف بين الكمال والتمام
جاء في البحث اللغوي أن "الكمال" هو في مرتبة أعلى من "التمام"، إلا أن بعضهم عمل جاهداً ليثبت أن التمام هو مرتبة أعلى من الكمال. وينبغي الإشارة هنا إلى عبارات في الزيارة الجامعة الكبيرة ودعاء الجوشن الكبير، قد وجهت الدعوة إلى الجميع ليتجهوا نحو الكمال، فهو غير مختص بسالكي وادي السير والسلوك. وفي دعاء الجوشن الكبير يجري الحديث عن خالق العالم بأسمائه الحسنى أمثال "الغافر"، "الغفور"، "الغفار"، "الراحم"، "الرحيم"، "الرحمن"، "أرحم الراحمين"، "الشكور"، "الشاكر"، "الجابر"، "الجبار"، "العليم"، "العالم"، "العلام"، و... وطبعاً لا يمكن اعتبار هذه الأسماء في مستوى واحد. وأما اختلاف هذه المراتب فهو لأن ضيوف هذه المائدة مختلفون. والحقيقة أن هذه المائدة المتنوعة فيها أطعمة مختلفة تناسب حال الضيوف. بعضهم يمتلك استعداد دعوة الله الغافر وبعضهم يمتلك استعداد دعوة الله الغفور وبعضهم الغفار و... (8).
والزيارة الجامعة الكبيرة هي مائدة الولاية المتنوعة الموجودة في متناول أيدي كافة الزائرين. لذلك وبحسب استعداد كل زائر يكون هناك طعام مناسب له. ولا يمكن القول إن كافة الصفات الموجودة فيها على مستوى واحد وهي جميعها في مستوى عالٍ، بل بعضها في مستوى عالٍ وبعضها الآخر في مستوى أعلى.
الأولى: بما أن حقيقة الوجود بسيطة وهي مشتملة على كافة الكمالات الوجودية مع بساطتها، لذلك فإذا كانت المحبة تامة كاملة، فلا تنافيها الأوصاف الكمالية الأخرى، لأنها تحتوي عليها جميعها. وفي هذا الإطار نرى الإمام السجاد عليه السلام في دعاء أبي حمزة الثمالي يطلب من الله تعالى المحبة التي لا تطرد الأوصاف الكمالية الأخرى، فيقول عليه السلام: "اللهم إني أسألك أن تملأ قلبي حباً لك وخشيةً منك وتصديقاً بكتابك وإيماناً بك وفرقاً منك وشوقاً إليك يا ذا الجلال والإكرام حبّب إليَّ لقاءك وأحبب لقائي"(10).
الثانية: إن مقدار تأثير المحبة مرهون لقدرة المحبوب. وفي هذا الإطار يقول الإمام علي عليه السلام الذي هو القرآن الناطق: ﴿لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللهِ﴾ (الحشر: 21)، ويقول حول أهمية المحبة: "لو أحبّني جَبَلٌ لتهافت"(11)، مع العلم أن بعض الأشخاص أمثال الشريف الرضي (رحمه الله) حمل ذلك على تحمل المصائب الشديدة، إلا أنها تدل على أهمية محبة الإمام عليه السلام.
الثالثة: قد تنحو المحبة تارة نحو التفريط وأخرى نحو الإفراط. وقد تحدث الإمام عليه السلام حول هذا الموضوع: "سيهلك فيَّ صنفان محبّ مفرط..."(12). ولكن إذا وفق المحب لتحديد الصراط المستقيم، فلن يميل نحو الشمال ولا نحو اليمين على الإطلاق، بل سيسير على الصراط حيث "خير الأمور أوسطها"(13). فإذا سلك على الصراط وجب عليه العمل طبق أصل آخر هو: خير الأمور أكثرها وأشدها وأعلاها و... حيث لا يوجد أي خطر يهدد هذا السالك هنا يصبح تمام المحبة وكمالها ذا معنى خاص عند سالكي الصراط المستقيم.
الرابعة: للمحبة التامة الكاملة شروط ينبغي تحصيلها ولها آثار أيضاً تترتب عليها بعد حصولها. من جملة الشروط العامة أن يتطهر القلب من التعلق بالغير حتى لا يتعلق به محبوب آخر سوى الله. وينبغي العمل ليصبح القلب محل تجلي المحبوب فلا يبقى أي أثر للمحب، بل تصبح حقيقته عبارة عن ظهور المحبوب. ولهذا الأمر آثار هامة على أساس أن هكذا علاقة تؤدي إلى محو الهُوية الشخصية وأما الذي يبقى فهو تجلي المحبوب فتصبح محبته محبة للمحبوب وليست محبة للمحب. وقد جاء في الزيارة الجامعة: "... من والاكم فقد والى الله... ومن أحبكم فقد أحب الله".
1.الأمالي، الصدوق، ص 438.
2.بحار الأنوار، المجلسي، ج 67، ص 24.
3.الأربعون حديثاً، ابن بابويه، ص 45.
4.بحار الأنوار، م. س، ج 39، ص 248.
5.م. ن، ج 46، ص 82.
6.الأمالي، الطوسي، ص 296.
7.الكافي، الكليني، ج 2، ص 76.
8.شذرات المعارف، آية الله الشاه آبادي، ص 56.
9.شرح منازل السائرين، عفيف الدين التلمساني، ص 389.
10.مفاتيح الجنان، أعمال أسحار شهر رمضان المبارك.
11.نهج البلاغة، الشريف الرضي، ج 4، ص 26.
12.م. ن.
13.بحار الأنوار، م. س، ج 48، ص 154 و 176