آية الله الشهيد مرتضى مطهري
* مفهوم الاجتهاد
للمرحوم الشيخ حجت جملة بليغة جداً في باب الاجتهاد فهو يقول: "إن الاجتهاد الواقعي يكون عندما تعرض قضية جديدة على الإنسان بدون أن يكون له أية سابقة ذهنية بها ولم تطرح في أي كتاب من قبلُ، ثم تعرض عليه فيستطيع مباشرةً أن يطبق الأصول بشكل صحيح لاستنباط الحكم، أما الإنسان الذي يدرس المسائل من "الجواهر" وفيه المقدمات والنتيجة (الصغرى والكبرى والنتيجة) وهو يتعلم فقط ويقول: نعم فهمت إن صاحب الجواهر يقول هكذا، وأنا أختار وأتبنى رأيه هذا ليس اجتهاداً، هذا الذي يقوم به الكثيرون.
الاجتهاد هو الابتكار وقيام الإنسان بنفسه برد الفرع إلى الأصل، ولهذا فالمجتهد الواقعي في كل علم يكون هكذا. وفي الغالب يكون المجتهدون عبارة عن مقلدين ولكن في المستوى العالي. وأنتم ترون أنه في كل عدة قرون يبرز شخص يغير الأصول ويحل محلها أُصولاً جيدة وقواعد حديثة. ثم يلحقه جميع المجتهدين. فالمجتهد الأصلي هو مثل ذلك الشخص، والبقية مقلدون على شكل مجتهدين وهم أرفع بقليل من غيرهم. وهذا ما ينطبق على كافة العلوم سواء في الآداب أو الفلسفة أو المنطق في الفقه والأصول والفيزياء والرياضيات. ففي الفيزياء يأتي أحد العلماء وينشئ مذهباً فيزيائياً ثم يتبعه جميع علماء الفيزياء. وذلك العالم هو الذي يمكن أن نطلق عليه عنوان المجتهد الواقعي.
ولكن التفكر بدون التعليم والتعلم ليس ممكناً، فالمادة الأصلية للتفكر هي التعلم. (وبالطبع نحن نتحدث) عن التفكير العقلاني ولا نشير إلى قضية الوحي). وعندما يتحدث الإسلام عن التفكر بعنوان أنه عبادة فهذا غير التعلم الذي هو عبادة. فهاتان مسألتان. يوجد في باب التعليم والتعلم أنهما عبادة. وفي باب التفكر أيضاً أنه عبادة. وما لدينا في مجال التفكير أكثر ممّا في باب التعلم. فمثلاً: أفضل العبادة التفكر، لا عبادة كالتفكر كان أكثر عبادة أبي ذر التفكر - والكثير أيضاً - ففي التفكر وبمعزل عن النتيجة التي يصل إليها الإنسان بفكره، فإنه ينمي هذه القدرة.
ويوجد في القرآن مطالب عديدة في مجال التفكر والتعقل. ولا يلزم أن نجمع آيات القرآن في هذا الباب الموارد التي يدعو فيها القرآن إلى التفكر والتعقل كثيرة.
* دعوة الإسلام إلى التعليم والتعلم
وأما المسألة الأخرى فهي ما يرتبط بالعلم والتعلم الذي يحصل بين أفراد البشر. ولا أتصور أن هناك حاجة للبحث في دعوة الإسلام للتعليم والتعلّم، لأنه أمر واضح، بل يجب البحث في حدود العلم الإسلامي والتعاليم الإسلامي، فأي علم يريده الإسلام؟ وأوائل الآيات القرآنية: {اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم} خير شاهد على الاعتناء الشديد للإسلام بالتعلم
﴿الذي علَم بالقلم﴾.
والقلم هو مظهر العلم والكتابة.
والآيات الأخرى: ﴿هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون﴾ (الزمر: 9).
﴿وقل الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً﴾ (القصص: 80).
وكذلك ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: بالتعليم أرسلت. وفي تلك القصة المعروفة عندما يدخل صلى الله عليه وآله وسلم إلى المسجد فيرى حلقين مجتمعتين واحدة مشغولة بالعبادة والأخرى بالعلم فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "كلاهما على خير ولكن بالتعليم أرسلت" ثم دخل في تلك الحلقة المشغولة بالعلم.
الإسلام يحث على التعليم والتعلم وأحد مقاصده صيرورة الأمة الإسلامية عالمة.
الآية الأخرى: ﴿هو الذي بعث في الأُميّين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة﴾ (الجمعة: 2).
ويزكيهم ترتبط بالتربية.
ويعلمهم الكتاب والحكمة، هل المقصودُ من الكتاب أيُّ الكتاب أم القرآن؟ والحكمة هي إدراك الحقيقة ولا بحث في هذا الكلام ولكن البحث هو أيُّ شيء يُعَدُّ حكمةً وأيُّ شيء لا.
﴿يؤتِي الحكمةَ من يشاء، ومن يؤتَ الحكمةَ فقد أُوتي خيراً كثيراً﴾ (البقرة:269).
وهكذا فلا كلام بشأن مبدأ ودعوة الإسلام بشكل عام إلى التعليم والتعلم وأن هدف الإسلام وأحد مقاصده صيرورة الأمة الإسلامية عالمة. و"طلب العلم فريضة على كل مسلم" من مسلمات الأحاديث النبوية. والمسلم أيضاً أن لا خصوصية هنا للمسلم مقابل المُسلِمة.
* أي علم؟
في مسألة التعليم والتعلم، فإن العمدة أن نرى حدود هذا الأمر ما هي؟ وفي إحدى المحاضرات التي طبعت تحت عنوان "حديث الشهر" قدَّمْتُ بحث حول ريضة العلم بأن بعض العلوم تعتبر واجباً عينياً، أي أن العلم يكون لازماً وواجباً على كل مسلم قبل معرفة العلم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
فذلك المقدار الذي هو مقدمة الإيمان أو من شروطه هو علم واجب عيني لأنَّ الإسلام اعتقادٌ عن علم لا عن تقليد. وهذا ما ذكره كافة العلماء. و"طلب العلم فريضة" يشمل بالقدر المسلّم جميع العلوم التي هي من شروط الإيمان، وإذا تجاوزنا فينبغي أن ننظر ما هو هذا العلم؟
أحد الأبحاث الذي دار الجدال واللغط حوله بين مختلف فئات العلماء المسلمين في ماهية هذا العلم الفريضة، ما هو؟
قال الفقهاء أن المقصود هو علم الفقه لأنه مقدمة للعمل، أما علماء الأخلاق فنفوا ذلك وقالوا إن علم الأخلاق هو أشد لزوماً ووجوباً. وعلماء الكلام فسروا ذلك بأنه علم الكلام وكل فرقة فسرته حسب مشربها. ولكن هذا لا بحث فيه. فإن العلم إما أن يكون هدفاً أو مقدمة للوصول إلى الهدف. فعندما يكون هدفاً يكون واجباً مثل الأصول العقائدية، وكذلك حتى لو لم يكن هدفاً بحد ذاته ولكنه مقدمة الوصول إلى أحد الأهداف الإسلامية فإنه من باب مقدمة الواجب واجبة يصبح كذلك ونفس هؤلاء الفقهاء يقولون: إن تعلم الأحكام واجب مقدمي أو تهيؤي فالشيء الواجب علينا هو العمل، كالصلاة، ولكن الذي يريد أن يصلى صلاة صحيحة لا يمكنه ذلك بدون تعلم أحكامها. وهذا لا يختص بمسائل الصلاة والصوم وأمثالها، فكل وظيفة من الوظائف الإسلامية تحتاج إلى العلم. وهو يتحول إلى علم واجب لأنه واجب نفسي تهيؤي وعلم الأخلاق بالطبع من هذا القبيل، فالإسلام يريد تزكية النفس "ويزكيهم" وهذا ما لا يمكن أن يحدث بدون علم. وعندما نريد أن نتعلم سلسلة من تعاليم القرآن، فمن البديهي أنَّ تعلُّمَ القرآنِ وتفسيرَه يصبح واجباً. فتتسع عندئذٍ دائرةً القرآن العلم ليصبح هناك أيضاً سلسلة من الواجبات الكفائية وهي التي تقوم على أساس تقسيم العمل. مثل ضرورة وجود الطبيب ليرجع إليه المرضى. والطبيب لا يتحقق بدون التعلم. ولهذا يقال إن تعلّم الطب واجب كفائي. أما ما هي حدوده؟ فلا يوجد حد معين، لكل زمان حد، ففي عصر كان يجب تعلم "القانون" لابن سينا، واليوم شيء آخر...
المثال الآخر التجارة. فهل يوجد في النظام الاقتصادي الإسلامي أشخاص وسطاء ما بين المنتج والمستهلك. وإذا كان هذا الأمر مؤيداً فإن علم التجارة يصبح واجباً.
* مثال آخر في القرآن الكريم
﴿وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوّكم﴾.
هل أن تهيئة القوة إلى درجة ترهبون به عدو الله وعدوكم واجبةٌ أم لا؟ نعم واجبة، ولكن هذا الأمر لا يتحقق بذاته فالقوة لا تحصل بمجرد حمل المعول بل لها طريق هو العلم. إلى أي حد؟
إلى ذلك الحد الذي ترهبون به... يختلف مع كل زمان.
لهذا فإن طلب العلم فريضة على كل مسلم ليصبح تكليفاً واضحاً، فبعض العلوم تكون واجباً عينياً على كل فرد وبعضها واجب كفائي. وبناءً على هذا لا يبقى مجال للشك والشبهة حتى يقول البعض: إن العلم الواجب هو فقط العلم الديني.
كلا فتعلّم الدين هو علم، وتعلّم الشيء الذي يمكن الإنسان من أداء تكليفه الشرعي علم آخر. وغاية الأمر أن قسماً من الدين يعتبر تعلّمه واجباً عينياً [مثل معرفة الله] وقسم آخر واجب مقدماتي [مثل تعلّم أحكام الصلاة].
* الخلاصة
1 - أولى الإسلام إهتماماً بالغاً بالتربية والتعليم.
2 - والتربية تتوجه إلى تطوير القدرات الفكرية عند المتعلم وبتعبير آخر... إعطائه إمكانية التجزئة والتحليل.
3 - العقل خلاف العلم. فالعلم يعطي معلومات، أما التعقل فيوصل إلى النتائج السليمة.
■ لا يمكن الاستغناء عن الأفراد الواعين الذين تتحقق المشاريع على أيديهم.
■ أمير المؤمنين عليه السلام:
العلم علمان علم مطبوع وعلم مسموع، ولا ينفع المسموع إذ لم يكن المطبوع.