الشيخ شفيق جرادي
إن الحب شعور يختلج النفس، فيحرك فيها ألواناً من التقيد والالتزام بسلوكياتٍ تسترضي المحبوب، وتسعى للتقرب منه قدر الوسع، هذا ولما كان حب الله هو المُوَلِّد للحب في الله سبحانه وتعالى.. صار لزاماً على أي إنسانٍ مسلم ملتزم أن يرقب ذاته ومشاعره في أي طريق تسير وإلى أي مقصد تتجه..
فأي حب واختلاجٍ عاطفي يقوم على غير ما فيه لله سبحانه رضا، سوف يوقع المرء في تيه وضلالة، تنعكس آثارها في الدنيا بتحزبات وفرق شتى، ومشتتة، كما وتنعكس في الآخرة حسرة وندامة، إذ الحب في غير الله ولغير الله سبحانه يُعمي ويوقع في الغفلة التي تستجلب الندامة "قال ربي لِمَ حشرتني أعمى وقد كنتُ بصيراً قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تُنسى".
ومن هنا ضرورة التنبه إلى كل ارتباط قائم على الحب والانقياد ليستجلي الإنسان الموقف، ويستعلم هل هو ضمن إطار الرضا الإلهي والمأذون به أم أنه خارج جادة الحق والصراط المستقيم. والبحث في مسألة حب الإنسان لمحمد صلى الله عليه وآله وال بيته الطاهرين عليهم السلام تدخل ضمن هذه الدائرة، وهو الأمر الذي يستدعينا التعرف ولو إجمالاً إلى من هم آل البيت عليهم السلام، ولا أقصد بتلك المعرفة القراءة لسيرتهم أو تفاصيل معتقداتهم.. أو إلى ما هنالك، بل المقصود، هو التعرف إلى موقعهم من الباري سبحانه، وهل هذه المعرفة توصل إلى علاقة تستدعي النظرة إليهم عليهم السلام كمستقلين عن الله أم أنها تقوم أولاً وآخراً على طبيعة ارتباطهم وتعلقهم الذاتي بالباري سبحانه وتعالى.
* آل البيت عليهم السلام هم أولياء الله سبحانه:
إن كلمة "الولي" من المصطلحات التي التبست عند الكثيرين في تحديد معناها والمقصود منها، حتى ظنَّ البعض أن الشيعة حينما يتحدثون عن "علي ولي الله" مثلاً، فهم يشيرون إلى سلطانه على الله والعياذ بالله ومن نفس المورد اعتبر البعض أن علاقة الشيعة بالأولياء هي خارج دائرة العلاقة بالباري سبحانه وتعالى؛ فمن هو الولي عند الشيعة إذاً؟ وكيف فهموا معنى الولاية والولي؟ "الولي هو الفاني فيه تعالى، الباقي به، وليس المراد بالفناء انعدام عين العبد مطلقاً، بل المراد منه فناء الجهة البشرية في الجهة الربانية، فإن العبد مبدأ لأفعاله وصفاته قبل الاتصاف بمقام الولاية من حيث البشرية، وبعد اتصافه بها هو مبدؤها من حيث الجهة الربانية، كما نُقل عن أمير المؤمنين علي بن آبي طالب عليه السلام : "قلعت باب خيبر بقوة ربانية".
وورد في الحديث: "فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي به يبصر".. وذلك الاتصاف لا يحصل إلاَّ بالتوجه التام إلى حضرة الحق المطلق المتعالي سبحانه، إذ به يقوي حقيقته فتغلب الجهة الخلقية إلى أن تقهرها، وتفنيها من أصلها، كالقطعة من الحديد المجاورة للنار.. فما ظنك بالروح الإنسانية، والنفس الناطقة القدسية القابلة للخلافة الإلهية والوجود الحقاني بالتصفية والتسوية "فإذا سوَّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين" . ثم ذلك التوجه لا يمكن إلاَّ بالمحبة الذاتية الكامنة في العبد، وظهورها لا يكون إلاَّ بالاجتناب عما يضادها ويناقضها، وهو التقوى "إن الله يحب المتقين"، "إن أكرمكم عند الله أتقاكم"، "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يُحببكم الله" فالمحبة هي المركب، والزاد التقوى(1). هذا النص من المتكلم والعارف "أحمد الاشتياني"، يظهر وبشكل مكثَّف طبيعة فهم الشيعة للإمام الولي؛ كما ويُبين منشأ قدسيته التي يعتقدون بها، فالولي:
أولاً: إنسان مخلوق أفنى كل خصوصية عنده، وتجاوز كل مصلحة وحد ذاتي، ليفنى بالواحد وحده سبحانه وتعالى؛ وما عاد له من بقاء إلاَّ بالارتباط بباريه عزَّ وجل.
ثانياً: إن كل فعل، بل كل صفة يتسم بها الولي إنما هي رشحات بقائه بالله سبحانه، وما قوة أمير المؤمنين عليه السلام، وما حركة أي إمام أو فعله إلاَّ تجلٍ لتلك الذات الإلهية التي لها كان انتسابه عليه السلام.
ثالثاً: إن الحب الذاتي هو الذي صيَّر المُحبَّ عبداً مطلقاً للمحبوب الرب المطلق وبمركب الحب هذا، تصل جماعة البشر إلى كمالها وشاطئ أمانها الأبدي. لذا فالارتباط بالولي النبي؛ أو الولي الإمام، هو ارتباط بالله سبحانه، إذ ليس للولي النبي أو الإمام، من نفسه شيئاً فهو العبد المطلق والتعلق الصرف، بالله الرب السيد المالك الذي بيده كل شيء؛ وبما أنهم عليهم السلام كذلك فالارتباط بهم هو الذي يكشف عن الارتباط بالله سبحانه وتعالى ﴿قلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾.
وفي تفسير علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن أبي سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "ما يموت موالٍ لنا مبغض لأعدائنا إلاَّ ويحضره رسول الله صلى الله عليه وآله، وأمير المؤمنين علي، والحسن، والحسين صلوات الله عليهم فيرونه ويبشرونه؛ وإن كان غير موالٍ لنا يراهم بحيث يسوؤه"(2). ولقد اعتبرت هذه الرواية كلمة "موالٍ لنا" بمعنى "محبٍ لنا" مما يعني أن الحب الذي ينتج عنه الخلاص في الدنيا والآخرة هو الحب الذي يتبع فيه المحب طريق الذي يحبه ويتولاه في الصراط المستقيم، ووجوه هذه المحبة تظهر على صفحة حياة الموالي بالموارد التالية؛ التي نذكرها على سبيل المثال لا الحصر:
أولاً: في مجال الحياة العامة السياسية وغيرها فـ"الإمامة رياسة عامة دينية مشتملة على ترغيب عموم الناس في حفظ مصالحهم الدينية والدنيوية وزجرهم عمَّا يضرهم بحسبها"(3).
بهذا المعنى فإن قيادة جماعة المسلمين إلى كل ما فيه صلاحهم الذي حدَّده الله لهم ودفع جماعتهم نحو السير باتجاه، إنما قيادته ولم شمله وتحديد حيثياته يكون من قِبل الإمام الولي الناظم لشملهم العارف بحلال ربهم وحرامه.
ثانياً: تفسير كتاب الله العزيز، وشرح مقاصده، وكشف أسراره؛ بما لا يدع مجالاً لشرذمة الآراء والاتجاهات النابعة من مصالح الذات والهوى ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ سورة النحل/44.
ثالثاً: دفع الشبهات، والإجابة عن كل سؤال تفرضه الحاجات الخاصة بمجتمع المسلمين، أو يثيرها أعداؤهم في حق الدين والإسلام، كما وصون الدين من كل شبهة، أو دس، أو تحريف.. فعن أمير المؤمنين عليه السلام : "اللهم بلى لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة، إما ظاهراً مشهوراً، وإما خائفاً مغموراً، لئلا تبطل حجج الله وبيِّناته" نهج البلاغة. وعن الإمام الصادق عليه السلام : "إن الأرض لا تخلو وفيها إمام كلما زاد المؤمنون شيئاً ردَّهم، وإذا نقصوا شيئاً أتمَّه لهم".
رابعاً: توجيه معنوي ذاتي لنفوس الموالين من محبي أهل البيت لرفعهم نحو رتب الكمال الإنساني؛ وإخراجهم من حدود هذه الدنيا وتراكمات الحجب المانعة من صلتهم، وقربهم بالباري سبحانه وتعالى؛ فشفاعة آل البيت المتولدة من حب شيعتهم لهم عليهم السلام هي الصراط المُخرج للناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم.. ولقد جاء في الكثير من الروايات أن هذه العلاقة التكاملية بذور في ذات الولي النبي أو الإمام؛ والمتولي المحب لهم عليهم السلام. ففي الكافي عن الباقر عليه السلام قال: "إن الله خلقنا من أعلى عليين وخلق قلوب شيعتنا مما خلقنا منه، وخلق أبدانهم من دون ذلك وقلوبهم تحن إلينا، لأنها خلقت مما خلقنا" ثم تلا هذه الآية: ﴿كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ﴾.
* نتائج وآثار حب آل البيت عليهم السلام:
إذا كان حب آل البيت عليهم السلام حقيقة واقعية؛ ورتبة من رتب الكمال الوجودي؛ وإذا كان له منشأ سبق أن أشرنا إليه بحسب بعض الروايات فهو لا بد له نتائج وآثار في حياة الموالي.
* إن حب أهل البيت عليهم السلام في هذه الحياة الدنيا هو الحصن والحافظ الذي نتج عنه حفظ الشيعة ككيان استطاع مغالبة عواصف الدهر، وموجات الإبادة التي مارسها أعداء أهل البيت عليهم السلام؛ في حق الشيعة الأكارم. وبهذا الحب استمر مظاهر الولاء من مثل: قصد المقامات الشريفة، وإقامة مجالس العزاء، والارتباط بالمرجعيات الدينية الشيعية، والتقيد بأوامر الولي الفقيه، وتبني الأقدر للأكثر حاجة وهكذا..
* إن حب أهل البيت عليهم السلام والارتباط المعنوي بقائمهم رحمه الله هو الذي حفظ الهوية الشيعية التي هي عين الإسلام وقلبه النابض عن التمزق، والتهتك، والتحلل، وقوَّم كل مرتكزات العزة ورغبة الرفض لوجوه الظلم طلباً للحق وبسط العدل الذي أثمر الثورات في التاريخ الإسلامي والتي كان آخرها وليس أخيرها الثورة الإسلامية في إيران، والمقاومة الإسلامية في لبنان.
* إن لحب آل البيت عليهم السلام آثاراً خاصة عند الموت.. ففي تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً﴾ قال: "إذا حضر المؤمن الوفاة نادى منادٍ من عند الله يا أيتها النفس المطمئنة إرجعي إلى ربك راضية بولاء علي مرضية بالثواب، فادخلي في عبادي وادخلي جنتي، فلا يكون له همة إلاَّ اللحوق بالنداء". وعن الإمام الرضا عليه السلام عن آبائه عليهم السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام : "من أحبني وجدني عند مماته بحيث يحب، ومن أبغضني وجدني عند مماته بحيث يكره".
* حصول الآثار الخاصة لحب آل البيت عليهم السلام في القبر.. فعن الإمام الصادق عليه السلام : "إذا مات العبد المؤمن دخل معه في قبره ستة صور، فيهنَّ صورة أحسنهنَّ وجهاً، وأبهاهنَّ هيئة، وأطيبهنَّ ريحاً؛ وأنظفهنَّ صورة.. وتقف التي هي أحسنهنَّ فوق رأسه وكلما أتى إليه العذاب من جانب دفعته صورة من صور الالتزام بالتكاليف، إلى أن يصل العذاب لفوق رأسه فيمتنع فيسأل تلك الصورة من أنت فأنت أحسننا وجهاً وأطيبنا ريحاً وأبهانا هيئة؟ فتقول تلك الصورة: "أنا الولاية لآل محمد صلوات الله عليهم أجمعين"(4).
* آثار حب أهل البيت عليهم السلام في الآخرة، ففي الوارد من الأخبار: "ألا ومن أحبَّ علياً جاء يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر. ألا ومن أحبَّ علياً وضع على رأسه تاج الملك، وألبس حلَّة الكرامة. ألا ومن أحبَّ علياً جاز على الصراط كالبرق الخاطف، ألا ومن أحبَّ علياً كتب الله له براءة من النار، وجوازاً على الصراط وأماناً من العذاب، ولم ينشر له ديوان ولم ينصب له ميزان وقيل له: ادخل الجنة بلا حساب. ألا ومن أحبَّ آل محمد أمن من الحساب والميزان والصراط. ألا ومن مات على حب آل محمد فأنا كفيله بالجنة مع الأنبياء. ألا ومن مات على بغض آل محمد لم يشم رائحة الجنة".
وعليه فإن منبع ارتباط المحب بحب آل البيت عليهم السلام إنما هو حب الله سبحانه وهاجس الحفاظ على ميزان الانتماء لله في الدنيا والآخرة، ورجاء أن يظلل الباري يوم القيامة كل محب لآل بيت نبيه بظل رحمته ومحبته.
(1) الاشتياني، أحمد مجلة المحجة - عدد صفر - حزيران 2001 - المعهد الإسلامي للمعارف الحكمية ص 130 - 131.
(2) منقول عن تسلية الفؤاد لعبد الله شبر ص65.
(3) الطوسي؛ نصير الدين - قواعد العقايد - ط دار الأضواء - بيروت - ص457.
(4) تسلية الفؤاد - شبر.