ما هو موقع المحبة داخل التعاليم الإسلامية؟
ولماذا اعتبرت محبة أهل البيت علامة أساسية على الإيمان الصحيح؟
وهل أن هذه المحبة أمر اكتسابي أم توجه طبيعي؟
لن نجد ديناً سماوياً ولا شريعة إلهية ولا مذهباً وضعياً أكّد على أمر المحبة كما جاء في الإسلام، حتى لقد اعتبرت من العلائم الأساسية على صحة إيمان المرء وتدينه، وصارت شرطاً واضحاً من شروط السير وأساساً فريداً في ميزان الأعمال وضامناً رئيسياً لعبور صراط يوم القيامة.
فلماذا كل هذا؟ وما هو موقع هذه القيمة الإلهية النفسانية والفضيلة الأخلاقية الربانية داخل عالم الإسلام بكل تعاليمه وأحكامه؟
إن الإجابة عن هذا السؤال سيكون من شأنها فتح الباب الواسع لفهم جوهر الإسلام وروحه الأصيلة، وعلى ضوئها يمكن فهم عالمه المعنوي العابق بنفحات الرحمة اللامتناهية. ولأن هذا الموضوع يتطلب سليقة خاصة ونفساً واعية كان لا بد من الإشارة إلى بعض النقاط أولاً.
إن المحبة تُفهم عادة ونتيجة للتربية الخاطئة والمناهج المدرسية السيئة والدعاية والإعلام المنتشر على أنها علاقة بين جنسين تتجاذب فيها الغرائز والميول قبل القلوب، وتستخدم فيها العواطف والأدبيات والقصائد والغزليات لأجل الوصول إلى المأرب الغرائزي الكامن في طبيعة الجسم البشري.
وبالفعل هذا ما تعرضت له المحبة - هذه القيمة العظيمة - طوال عصور البشرية المتمادية، فكانت في نفوس وعقول الكثيرين فعلاً غرائزياً بحتاً. حتى أننا نسمع أحياناً في القصائد والمداح إشارات تنبذ العاطفة والمحبة، أو نجد في أغلب الأحيان نفوراً منها عند الخطباء وبعض المثقفين الذين يرون للعقل قيمة وحيدة شريفة وسامية عند الإنسان.
ولكننا عند التحليل العقلي والسير التأملي في أعماق الإنسان نجد أن الله سبحانه وتعالى قد جبل فطرة الإنسان الصافية على أساس المحبة وأودع في أعماق خلقته شعوراً عميقاً بالمحبة. لأن "المحبة هي تعلق خاص وانجذاب مخصوص بين المرء وكماله" كما هو تعبير العلامة الطباطبائي قدس سره، واتفق عليه الأقدمون والمتأخرون من علماء الإسلام والإلهيات. ويكفي دلالة على ما نقول أن المحبة أمر غير اكتسابي في أصل وجودها وهي لا تنشأ في الإنسان نتيجة التربية والإعلام والبيئة والدراسة. هذا ما تشهد عليه عصور البشرية وتؤكده عملية التأمل في وجدان البشر.
فإذا أدرك الإنسان هذه الحقيقة الإلهية وتأمّل فيها جيداً عرف المقصد الواقعي من وراء إيجادها. لأن الله لا يفعل العبث - تعالى عن ذلك علواً كبيراً - بل خلق كل شيء وأحسن خلقه. وركّب هذا الوجود على أساس النظام الأتم الأحسن الذي يضمن لكل مخلوق الوصول إلى سعادته وكماله الحقيقي، ولذلك كانت المحبة إيجاد جاذبة في عمق الإنسان بيد الله ذي الجلال والجمال تدفع الإنسان وتجذبه نحو محبوبه لأنه يراه كمالاً له.
قال الإمام الخميني قدس سره العظيم: "إن فطرتنا تعشق الكمال المطلق، وهي تصبو للوصول إليه..".
فهي رغبة قلبية لا تعرف الشبع وليس لها أي حد. ولكن أكثر الناس لا يعلمون. وتوضيح هذا الأمر على ما يلي:
بعد أن سلّمنا أن المحبة أمر فطري، وأنها وجدت بيد الله وأودعت في أعماق كل البشر، نطرح هذا السؤال:
ما هو متعلق هذه المحبة؟ هل يوجد محبوب معين تنجذب إليه فطرة الإنسان أم أن الأمر متروك للإنسان حسب تربيته واختياره؟
- لقد زعم البعض أن الإنسان يحب نفسه فطرياً.
- وقال آخرون أن ما يحبه الإنسان هو الدنيا لأنه أين الدنيا، والإنسان لا يلام على حب أمه.
- وقال البعض أن الإنسان يعشق السعادة أينما وجدت ومهما كانت سواء في الدنيا أم في الآخرة، سواء في الحرام أم في الحلال.
- ويوجد بعض من أنكر أن تكون المحبة أمراً متعلقاً بغير البشر.
ولكننا إذا تأملنا في حقيقة هذه الدوافع التي تدخل تحت عنوان المحبة علمنا أن رغبة الإنسان هي في الاتصال بكماله هو. وإن ما يحبه الإنسان بالحقيقة هو كماله المشنود. ومن هنا نستطيع أن نفسر كافة الأقاويل.
فإن البعض يرون كمالهم في ذواتهم ولذلك يعشقون ذواتهم أكثر من أي شيء آخر.
بينما يرى الكثيرون أن الدنيا هي كمالهم، وأن ما تتوق إليه أنفسهم هو لذّات الدنيا المختلفة من الذهب والفضة والنساء والبنين وتفاصيل الحياة الدنيا.
وأولئك الذين وجدوا في عشيرتهم أو بني جنسهم عاملاً أساسياً للسعادة ولم يدركوا وراءه شيئاً آخر، فسّروا المحبة على أنها تجاذب بين البشر.
والحق في كل ذلك هو أن الإنسان لا يعشق إلا شيئاً واحداً هو كماله النهائي. ولذلك تجد أنه كلما أدرك حظاً منه تعلق بما هو أكمل، لأن الأول ليس كماله النهائي. فإذا كان يعشق النساء لجمالهن فقط وارتبط بواحدة منهن تجده إذا شاهد من هي أجمل منها يتعلق قلبه بها. وإذا كان يحب المال لأنه يمثل له القدرة على الحصول على ما يريد، وأدرك نصيباً منه لم يشبع بل تاق إلى المزيد.
وذلك الذي نشأ في جو عائلي حميم لا يشبع بمجرد وصوله إلى سن ما بعد البلوغ، بل يشعر بحاجة ماسة إلى الارتواء العاطفي.
هذا ما تحكيه لنا فطرة الإنسان، وأنه يحب الكمال المطلق اللامتناهي بالأصل، وذلك لأن هذا الكمال هو كماله النهائي وسر وجوده. قال الله سبحانه وتعالى:
"لم تسعني أرضي ولا سمائي، ولكن وسعني قلبُ عبدي المؤمن" ولكن معظم الناس ونتيجة للتربية الفاسدة والذنوب المتراكمة كغشاء ظلماني على صفحة القلب لا يرون محبوبهم الأصيل، بل يظنون أنها لملذات الفانية والدنيا الزائلة هي المحبوب الأول والأخير.
أما المؤمنون فهم في المقابل أصحاب القلوب الصافية يترنمون بحقيقة: ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾.
ويدركون لذة: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ﴾.
لأن عقولهم أدركت فناء العاجل وزوال ما عدا الله: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ *َيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾.
وتعلقت قلوبهم بالمحل الأعلى، فانكشفت أمامهم حجب الظلام والنور وعاشوا سعادة:"إلهي هب كمال الانقطاع إليك..".
"ولعمري كم من الفرق بين من يقول إن المحبة لا تتعلّق بالله وبين من يقول إن المحبة لا تتعلق إلا بالله" (العلامة الطباطبائي - رسالة الولاية).
فالإنسان لا يحب إلا خالقه بالأصالة، ولكنه يغفل عن هذا الحب المتجذر في أعماقه والذي يشكل أساس خلقته، ويظن أن محبوبه هو الدنيا أو النفس ومتعلقاتها.
ثم إننا إذا أرجعنا البصر كرة أخرى علمنا كم لهذه المحبة من آثار عظيمة في وجود الإنسان لأنها أساس كل خير، وتوضيحه:
- أن العمل هو الذي يرفع صاحبه عند الله.
- ولا إيمان بدون عمل، لأن الإيمان يثبت بالعمل.
- والإنسان عندما يؤدي أي عمل فإنه يمر بمراحل:
أولاً أنه يتصوره،
ثم يتصور فائدته،
ثم يصدق بفائدته، فإذا صدق بفائدته أحبه وأحب آثاره،
ثم يهمّ به للشوق والميل الذي يحدثه،
ثم يفعله،ولا يوجد أي فعل اختياري يؤديه الإنسان لا يمر بهذه المراحل. فالمحبة هي الباعث على أداء أي عمل، وبدونها لا نشاط ولا فعل..
ومن هنا نفهم بعض أسرار التأكيد على المحبة والولاية ونطلع على لائحة أن محبة أمير المؤمنين هي الفيصل الحق بين الإيمان والنفاق.
فالمحبة أساس كل عمل، فإن كانت متعلقة بالصلاح قادت صاحبها إلى فعله. وإن كانت متعلقة بالسوء ساقت صاحبها إلى السوء حتى كان مدركاً لسوئه.
وعندما نجول في أرجاء التعاليم الإسلامية نلمس جوهرة من روحها ونعلم أن الله سبحانه يريد منا صحة النية وسلامة القلب: ﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ *إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾.
وإن أساس ميزان الأعمال هو التوجه الباطني وليس العمل الظاهري لوحده. كل ذلك لسببين:
أولهما: أن المحبة الصحيحة تصحح عمل الإنسان، فيرتفع في مراتب الإيمان: "والعمل الصالح يرفعه".
وثانيهما: أن المحبة غاية لأنها انقطاع إلى المحبوب. وقد علمت أن الغاية من وجود الإنسان هو الوصول إلى الله تعالى:﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾.
* محبة أهل البيت عنوان المحبة الصحيحة
إن الله سبحانه وتعالى هو كمال الإنسان الحقيقي وغاية آماله العميقة لا يعشق سواه ولا يتعلق بغيره، وإن غفل عنه وضل.
والنبي الأكرم وأهل بيته عليهم أفضل الصلاة والسلام هم مظاهر هذا الكمال وأقرب الخلق إليه. ومن هنا كان حبهم حباً للكمال الخالص الذي هو الله عز وجل، وكان علامة على الإيمان بالله وطريقاً إليه وأصلاً لكل خير:
قال الإمام الباقر عليه السلام:"إذا أردت أن تعلم أن فيك خيراً، فانظر إلى قلبك فإن كان يحب أهل طاعة الله ويبغض أهل معصيته ففيك خير، والله يحبك. وإن كان يبغض أهل طاعة الله، ويحب أهل معصيته فليس فيك خير والله يبغضك والمرء مع من يحب".
ويكفي التدبر في هذه الرواية البليغة عن باقر علوم الأولين والآخرين لنعلم أن المحبة هي معيار الإيمان وأصل الخير وجوهره ومعدنه. فعندما أمرنا الله تعالى بحب النبي وأهل بيته فذلك لأنهم يمثلون الخير والكمال كله، وبحبهم يتمثل التوجه التام نحو الكمال والخير والفضائل، فيتحرك المحب نحوهم ويسعى لمشاكلتهم.
وما أجمل ما قاله الشيخ الطوسي في شرحه للإشارات:"والحب النفساني يكون مبدئه مشاكلة العاشق لنفس المعشوق في الجوهر، وهو يجعل النفس لينة شيقة ذات وجد ورقة منقطعة عن الشواغل الدنيوية".
ولأن الحب يعمي ويصم المحبَّ عن رؤية غير المحبوب، فإن حب الله، الذي لا يحصل إلا بحب أوليائه، يقطع الإنسان عما سوى الله فلا يرى إلا الحق، وتصبح الحقيقة ضالته والجمال السرمدي مبتغاه.
والحب أدق حركة وأعظم عمل يؤديه الإنسان، ولذلك كانت الأفعال الصادرة عن المحبة أعظم أجراً وأكثر نفعاً وتأثيراً. بل بدونها لا أثر ولا كمال.
وحيث أن الإنسان يتأثر بأشد ما يكون بمن يشبهه في الأصل والنوع، كانت محبة الإنسان للكامل من نوعه أفضل وسيلة للارتقاء في مراتب الكمال... هذا ما تشهد عليه تجارب الصحبة والمعاشرة التي تثبت أن أعظم ما يتأثر به الإنسان ما يعاينه من مثيله. وهذا أصل مستفاد من ضرورة أن يكون النبي بشراً وأن يُرسَل بلسان قومه.
عندما يشاهد الإنسان شخصاً يماثله في الميول والغرائز والحاجات وقد ارتقى في عالم الإنسانية والكمال ينجذب إليه بحكم فطرته الصافية ثم تستمر هذه الجاذبة بالاشتداد إلى أن تأخذ بمجامع قلبه فتنسيه كل ما عدا المحبوب فيشتاق إلى لقائه ويكثر من ذكره ويشتد هذا الذكر حتى يصبح معاينة ووصالاً، وهذا هو معنى الحضور.
كانت هذه بارقة من معنى المحبة، ذكرناها علها تسطع في سماء حياتنا فتضيء دروب مسيرنا نحو الله عز وجل. فسبحانه ما أعظم شأنه، نشكره على آلائه كلها ونسأله أن يجعلنا من محبي أهل البيت عليهم السلام.