الشيخ مصطفى قصير
بين القرآن الكريم وأهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام ترابط وثيق وتكامل وانسجام تامان، وقد أبرز ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله في أكثر من موقف وفي أكثر من نص، منها الحديث المتواتر المشهور بحديث الثقلين: "إني تاركٌ فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، لن تضلّوا ما إن تمسكتم بهما، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض..".
ومنها الحديث الوارد عنه صلى الله عليه وآله : "عليٌ مع القرآن والقرآن مع عليّ". وظاهر هذه النصوص وغيرها عدم الاستغناء بأحد الثقلين عن الآخر، لأنها جعلت العاصم من الضلالة متجسداً بالاثنين معاً، كما أنها تنصّ على التلازم والترابط بينهما بحيث أنه لا يمكن مخالفة أحدهما للآخر ولا افتراق احدهما عن الآخر الأمر الذي يجسّد المعيَّة في أكمل صورها.
وللمزيد من التفصيل في العلاقة بين أهل البيت عليهم السلام والقرآن يمكن لنا أن نوزع البحث على نقاط:
* النقطة الأولى:
دور القرآن الكريم في تثبيت مرجعية أهل البيت العلمية والسياسية وذلك من خلال آيات كثيرة أهمها:
آية التطهير: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ التي نزلت في أهل البيت الخمسة الموجودين في زمان نزولها والذين طبَّق عليهم رسول الله صلى الله عليه وآلهسك الآية عملياً حين أحاطهم بكسائه الخيبري قائلاً: "اللهم هؤلاء هم أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً" في إشارة تدل على الحصر وعلى أنهم المعنيون بالآية دون سواهم من الناس والآية إذ تثبت عصمتهم وطهارتهم، تحقق شرط المرجعية الشاملة والمطلقة فيهم.
آية أولي الأمر: "أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم" التي وردت الروايات عن الصادقين عليهم السلام في تفسيرها وفيها أنَّ أولي الأمر هنا هم الأئمة من أهل بيت النبوة، أوجب الله طاعتهم على الإطلاق كما أوجب طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وآله، ولا يجوز الأمر بالطاعة على الإطلاق إلاَّ لأهل العصمة وأهل الطهارة والذين يجسّدون الدين في كافة جوانبه المعرفية والعملية والروحية وهم أهل البيت عليهم السلام.
آية الولاية: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُون﴾ التي تواتر نزولها في عليّ عليه السلام عندما تصدَّق بخاتمه وهو راكع في صلاته، والوليّ هنا هو الذي يمكن موالاته ومتابعته بقول مطلق والارتباط به بشكل كامل ودائم، ومن خلال العطف على الرسول صلى الله عليه وآله وعلى الله عزَّ وجل يفهم وحدة الولاية وأنها ولاية واحدة لها تجليات، فطاعة الرسول صلى الله عليه وآله هي طاعة لله والولاية للرسول ولاية لله "من أطاع الرسول فقد أطاع الله"، فكذلك بالنسبة لعلي عليه السلام والأئمة المعصومين من ولده.
المباهلة: "فمن حاجّك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين" ومن المعروف أن الرسول صلى الله عليه وآله عندما خرج إلى المباهلة أخرج معه علياً وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، مما يكرس المنزلة الخاصة لهؤلاء الثلَّة والتي جعلت الرسول صلى الله عليه وآله يقبل على المباهلة بهم ويقسم على الله بهم، لإثبات الحق، وهذه النقطة تجعلهم محلاً للرسالة والإمامة وباباً من أبواب النجاة وصراط الحق الذي يصل بمن سلكه إلى الله. آيات عدَّة تأمر بمودة أهل البيت عليهم السلام بعنوان القربى، وبسؤالهم باعتبارهم أهل الذكر، وأنهم لكل قوم هادٍ، وأمثال ذلك. وقد صنَّف العلماء في الآيات النازلة بفضل أهل البيت عليهم السلام الكثير من الكتب، لعلّ من أشهرها: شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني، وشواهد التنزيل لمن خصّ بالتفضيل لابن رويش الأندونيسي، وما نزل من القرآن في علي عليه السلام للحسين بن الحكم الحبري وغيرها.
* النقطة الثانية:
إن القرآن الكريم معجزة الرسول صلى الله عليه وآله الخالدة، وعهد الله إلى خلقه، فهو كتاب عربي مبين لكنه يختلف عن غيره من الكتب، هذا الاختلاف يظهر من خلال استعراض حقائق ثلاثة لا يمكن تجاهلها:
أولها: أن القرآن الكريم بوصفه كتاب هداية، ومصدر للفكر والمعرفة والشريعة، هو كتاب شامل من حيث الموضوع لكل شيء وفيه بيان لكل شيء ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْء﴾، وقد أظهرت الروايات الواردة عن أهل بيت العصمة والطهارة هذه الحقيقة، كما ورد عن الإمام الباقر عليه السلام أنه قال: "إن الله لم يدع شيئاً تحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة إلاَّ أنزله في كتابه وبيَّنه لرسوله، وجعل لكل شيء حداً وجعل عليه دليلاً يدلّ عليه". وفي رواية أخرى عن الإمام الصادق عليه السلام : "ما من شيء يختلف فيه اثنان إلاَّ وله أصل في كتاب الله". لكن العبرة في كيفية استخراج ذلك واستنباطه منه، ومن هو القادر على ذلك؟
ثانيها: أن القرآن الكريم كتاب خالد أنزله الله على رسوله ليكون دليلاً ومرشداً وسراجاً منيراً لكل عصر ولكل دهر، فهو لم ينزل لزمان دون زمان ولا لعصر دون عصر، وهذه شموليَّة من حيث الزمان بعد أن كان القرآن شاملاً من حيث الموضوع لكل شيء، وفي هذا المجال يحدثنا الإمام جعفر الصادق عليه السلام فيقول: "إنَّ الله تبارك وتعالى لم يجعله لزمان دون زمان ولا لناس دون ناس، فهو في كل زمان جديد، عند كل قوم غضّ إلى يوم القيامة". وفي رواية أخرى: "إن القرآن حي لا يموت... يجري على آخرنا كما يجري على أولنا".
ثالثها: شمولية القرآن لكافة المخاطبين من البشر، على اختلاف مستوياتهم الإدراكية والعلميَّة والاجتماعية والمعيشية، فهو يخاطب عوام الناس كما يخاطب علماءهم ويخاطب أدنى الناس منزلة وأرفعهم شأناً، ويعطي لكل إنسانٍ ما يتناسب مع قدراته الإدراكية. ويدلّ على ذلك الرواية السابقة، ولعلَّ هذا الأمر هو الذي يجعل من القرآن الكريم معجزة بلاغية، فإن الكلام ينبغي أن يراعي أوضاع المخاطبين من حيث القدرة على الفهم وإدراك الخطاب والمضمون الذي يريد المتكلم أن يوصله إليه، وهو ما يعبر عنه بمراعاة مقتضى الحال، وكلما زادت الشريحة المخاطبة وتنوَّعت واختلفت في مستويات الإدراك والفهم كلما تعقَّدت مهمة المتكلم وتضاعفت الصعوبات في جعل الكلام متناسباً مع الجميع ومراعياً لمقتضيات أحوال الجميع. فإذا بلغت شريحة المخاطبين بالرسالة أو بالكلام حداً يشمل كل البشر وفي كل مكان وفي كل زمان خرج الأمر عن طاقة المتكلمين من الناس وانحصر في الكلام الإلهي المعجز. وهذا الأمر بالذات يفرض أن يكون للآية ظهر وبطن ولكل بطن بطن كما ورد في بعض النصوص المأثورة ليعطي الكلام لكل فريق ما يناسب أفهامهم وأوعيتهم.
يروى عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: "كتاب الله عزَّ وجلَّ على أربعة أشياء: على العبارة والإشارة واللطائف والحقائق، فالعبارة للعوام، والإشارة للخواص، واللطائف للأولياء والحقائق للأنبياء". وليس هذا من باب احتكار العلم والمعرفة، وليس حجباً للحقيقة عن أحد، وإنما هو من باب إعطاء كل إنسان ما يمكنه فهمه واستيعابه، وإلاَّ فإن الله تعالى جوادٌ كريمٌ لا بخل في ساحته، ولا يحجب عن أحد من خلقه شيئاً من الرحمة والهداية والعلم والمعرفة وإنما الإنسان نفسه هو الذي يحجب ذلك عندما يكتفي بالنزر اليسير من العلم والحد القليل من الإدراك ولا يسعى لتنمية عقله وتزكية نفسه وتصفية سريرته مما له مدخلية في تقوية البصيرة وصقل مرآة النفس الأمر الذي يعينه على الوصول إلى بعض مستويات الحقيقة.
* النقطة الثالثة:
عدم جواز الاستغناء بالقرآن الكريم عن الرسول صلى الله عليه وآله وأهل بيته الأئمة المعصومين عليهم السلام. فقد كان من مهام رسول الله صلى الله عليه وآله تبليغ القرآن وتفسيره للناس وتعليمهم إياه. ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ والتبيان لا يقتصر على التلاوة بل يتعداها إلى التفسير ورفع الإجمال والتشابه وغير ذلك مما يوصل الناس إلى أغراض القرآن الكريم، ويحول دون الاختلاف فيه. وقد أودع رسول الله صلى الله عليه وآله علومه علياً عليه السلام والأئمة الأطهار من ولده عليه السلام، وعبَّر عن ذلك في الحديث المستفيض بل المتواتر: "أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد المدينة فليأت الباب". ولم يكن ذلك تقصيراً من رسول الله صلى الله عليه وآله والعياذ بالله في تبليغ الشريعة ومعارف الدين، أو كتماناً لشيء من العلوم التي بعث لنشرها، بل لأنه صلى الله عليه وآله لم يجد وعاءً يعي، ولا قلباً يستوعب كل ما عنده وكل ما نزل عليه إلاَّ الأئمة الأطهار ممن اصطفاهم الله واختارهم بعد أن وجد فيهم من سمو النفس وطهارتها والانقطاع إلى بارئهم ومصورهم بما بلغ بهم درجة العصمة، فحمّلهم رسالته وائتمنهم على وحيه المنزل على رسوله. وقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام أن الله جلَّ ذكره قسم كلامه ثلاثة أقسام فجعل قسماً منه يعرفه العالم والجاهل وقسماً لا يعرفه إلاَّ من صفا ذهنه ولطف حسُّه وصح تمييزه، ممن شرح الله صدره للإسلام، وقسماً لا يعرفه إلاَّ الله وأنبياؤه والراسخون في العلم...
وكما كان رسول الله صلى الله عليه وآله يبحث عن الأوعية التي يمكن لها أن تستوعب دقائق المعارف والعلوم، وأسرار الكتاب، فكذلك أمير المؤمنين عليه السلام من بعده، روي عنه أنه كان يقول مشيراً إلى صدره: "إن ههنا لعلماً جماً لو أصبت له حملة". وهذه العلوم والمعارف التي يتحدث عنها لعلها من القسم الثالث الذي اختصوا به وائتُمنوا عليه، وأُمروا أن يوصلوه إلى من يتحمّله. والقرآن الكريم يدخل في جملة تلك العلوم خاصة فيما يحتويه من بطون وأعماق للمعاني، وما يحتاجه من تأويلٍ للمتشابه، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله : "ليس من القرآن آية إلاَّ ولها ظهر وبطن وما من حرف إلاَّ وله تأويل وما يعلم تأويله إلاَّ الله والراسخون في العلم".
* لكن من هم الراسخون في العلم؟
إنهم رسول الله صلى الله عليه وآله والأئمة الأطهار من بعده وهو المروي عنهم عليهم السلام، فعن الباقر عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله أفضل الراسخين في العلم قد علم جميع ما أنزل الله من التنزيل والتأويل، وما كان الله لينزل عليه شيئاً لم يعلمه تأويله، وروي عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: "نحن الراسخون في العلم ونحن نعلم تأويله". وقد ورد عن علي عليه السلام انه قال: "والله ما نزلت آية إلاَّ وقد علمت فيما نزلت وأين نزلت وعلى من نزلت إن ربي وهب لي قلباً عقولاً ولساناً طلقاً سؤولاً". وأنه قال: "ما نزلت عليه على النبي صلى الله عليه وآله آية في ليلة ولا نهار ولا سماء ولا أرض ولا دنيا ولا آخرة ولا جنة ولا نار ولا سهل ولا جبل ولا ضياء ولا ظلمة إلاَّ أقرأنيها وأملاها عليَّ فكتبتها بيدي وعلمني تأويلها وتفسيرها وناسخها ومنسوخها ومحكمها ومتشابهها وخاصها وعامها وأين نزلت وفيم نزلت إلى يوم القيامة". كل هذا يدلّ على أنَّ القرآن الكريم بما فيه من لطائف ودقائق وما فيه من إشارات ودلائل ليس في متناول الأفهام القاصرة والمدارك المحدودة ما لم يستعان بأهل بيت العصمة والطهارة الذين هم عدل القرآن ومعدن العلم، ولذلك قرنهم الرسول صلى الله عليه وآله به في وصيته الشهيرة: "إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما..".
ولقد كان من لطف الله على خلقه أنه لم يتركهم ليضلوا ويضيعوا وإنما نصب لهم هداةً يرجعون إليهم فيما اختلفوا فيه ليبين لهم ويدلهم على طريق الهداية والصواب، ولا شك أن القرآن لوحده لا يرفع الاختلاف ولم يرفعه فيما مضى، مما يثبت حاجة الناس إلى إمامٍ يحمل الكتاب ويعلم ما فيه ليرفع اختلافهم ويستخرج لهم كوامنه وجواهره ودرره، وفيه كل ما يحتاج الناس: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾. إلاَّ أننا لا تصل أفهامنا إلى كل شيء مما يفرض الاستعانة بمن لديهم كل شيء وهو ما تحدث عنه الإمام الصادق عليه السلام عندما قال: "والله إني لأعلم كتاب الله من أوله إلى آخره كأنه في كفّي، فيه خبر السماء وخبر الأرض، وخبر ما كان وخبر ما هو كائن، قال الله عزَّ وجل: ﴿تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾. فالعاقل لا يجد بداً من سلوك الطريق الموصل والأمن والذي يبلغ به الغاية ومن يجد النبع الصافي لا يستبدله بالمستنقعات الآسنة، والقضية قضية مصير وقضية نجاة ليس من موتٍ محتم بل من هلاك دائم وأبدي يوم القيامة يوم لا ينفع مال ولا بنون إلاَّ من أتى الله بقلب سليم.
وأختم بما ورد عن منصور بن حازم عندما أخبر الإمام الصادق عليه السلام عن محاورة جرت معه في رواية طويلة نقتطع منها ما يرتبط بالمقام:
قال منصور: قلت فحين مضى رسول الله صلى الله عليه وآله من كان الحجة من الله على خلقه؟ قالوا القرآن، فنظرت في القرآن فإذا هو يخاصم به المرجىء والقدري والزنديق الذي لا يؤمن به حتى يغلب الرجال بخصومته فعرفت أن القرآن لا يكون حجة إلاَّ بقيّم، فما قال فيه من شيء كان حقاً. فقلت لهم: من قيّم القرآن؟ فقالوا: ابن مسعود قد كان يعلم وعمر يعلم وحذيفة يعلم، قلت: كله؟ قالوا: لا، فلم أجد أحداً يقال إنه يعرف ذلك كله إلاَّ علياً عليه السلام وإذا كان الشيء بين القوم فقال هذا لا أدري وقال هذا لا أدري وقال هذا لا أدري وقال هذا أنا أدري فأشهد أن علياً كان قيّم القرآن وكانت طاعته مفترضة وكان الحجة على الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وأن ما قال في القرآن فهو حق. فقال عليه السلام: رحمك الله.