نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

الخلق العظيم

فضيلة الشيخ محمد خاتون


 ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا
إن الحديث عن خلق النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ليس حديثاً عن صفة مكتسبة... بل ليس حديثاً عن ملكة راسخة وإنما هو حديث عن قوام شخصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم حيث أن القرآن الكريم عندما عرض لهذه المسألة وبين عظمة أخلاق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جاءت الآية الكريمة لتقرر مجموعة من الحقائق لتأتي أخلاق النبي صلى الله عليه وآله وسلم كحقيقة بارزة من هذه الحقائق.
والذي وصف أخلاق النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالعظمة هو الله العظيم لبيان أن هذه الأخلاق هي منه عزَّ وجلَّ... وإلى هذا يشير القرآن الكريم في آية أخرى حيث يقول:
﴿فبما رحمة من الله لنت لهم حيث أن الرحمة هي جزء أساسي من أخلاق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ولا نريد في سياق الكلام عن الأخلاق أن نبين أهمية الأخلاق في الدعوة بغرض أن تصبح سبيلاً للدعوة فإن السير في هذه المقولة يحول الأخلاق إلى مظهر... فيمارس الإنسان الأخلاق ليكون ذلك حافزاً للآخرين ومرغباً لهم ليكونوا من المهتدين... إن هذا شكل من أشكال الأخلاق... ما نريده جوهر الأخلاق: كيف تكون الأخلاق جوهراً للإنسان... صحيح أن كثيراً من قضايا الأخلاق لها علاقة بالتعامل.. إلا أن الصحيح أيضاً هو أن التعامل كاشف عنها وليس باعثاً عليها... إن أخلاق النبي صلى الله عليه وآله وسلم هي نقطة التكامل في شخصه والمنطلق هو العلاقة ولكن قبل أن تكون علاقة مع البشر فهي العلاقة مع الله عزَّ وجلَّ.
ولعل هذا هو السر عندما نتشهد في الصلاة وفي غيرها.. في تقديم كلمة عبده على كلمة رسوله فإن العظمة في شخصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم على مستوى الرسالة هي نتاج لعظمته على مستوى العبودية.. وهذا ما يسري في الجانب الأساسي وهو الموضوع الأخلاقي فإن الأخلاق في شقّها الرسالي هي نتاج للأخلاق في شقها الآخر الذي ينبع من الذات...

فليس تعامل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع الآخرين كل الآخرين على اختلاف مذاهبهم وتعدد مشاربهم ليس هو إلا تعبيراً عن أحاسيس ومشاعر وهذه بدورها انعكاس لما يدور في حيّز آخر بين قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين المعبود الأوحد.

إن ما نفهمه من خلال استعراض القرآن الكريم لمجموع القضايا المرتبطة بالجانب الأخلاقي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. هو أن هذا الخلق العظيم ليس أسلوباً يتعلمه الإنسان كما يتعلم الشعر والخطابة وأصناف العلوم وغير ذلك من القضايا التي يجعلها الإنسان واسطة للدخول إلى الآخرين... بل إن استعراضنا لها يثبت أن هذه الأوصاف وإن كان لها أثرها العظيم على هداية آخرين إلا أن هذا شيء وامتلاك النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها شيء آخر فعندما تحدثت الآية الكريمة السالفة الذكر عن الرحمة... جعلت الآية الرحمة سبباً للّين وهو الأسلوب الذي من خلاله يدخل المرء إلى وجدان الطرف الآخر... ليست الرحمة نتاجاً للأسلوب.. فإن الرحمة النبوية هي الحلقة التي من خلالها دخل النبي إلى الإعجاز... نعم هناك تقرير لحقيقة ناتجة عن هذا الركن:
ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضّوا من حولك. ولعل هذا ما يمكن أن يفهم من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "أدّبني ربي فأحسن تأديبي".

إن مجموعة هذه الخصال وهي مكارم الأخلاق قد وجدت لتكون تعبيراً عن الحب الإلهي الذي لا يؤثر فيه هوى إنسان لأن الحب والتقديس لله عزَّ وجلَّ يمنعان صاحب الخلق العظيم أن يسيطر عليه هوى.
﴿ بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى  * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى *  إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى *  ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى .
إن ما نفهمه من التوجيهات الأخلاقية أن الغرض هو جعل الإنسان ذا خلق في ذاته بغض النظر عمّا يقوله الآخرون أو يفعلونه... ولو كانت العلاقة مع الآخرين... لأضحت الأخلاق في معرض التلف.
ففي قضية اليهودي الذي كان جاراً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان يؤذيه بوضع الأوساخ في طريق النبي أو على باب البيت.. ثم لما مرض اليهودي زاره النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكان هذا سبباً لإسلامه... في هذه القصة.. قد يغيب عن بالنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عمل بأخلاقه... وحتى لو علم النبي أن اليهودي سوف لن يسلم فهذا لا يشكل مانعاً من المعاملة بالخلق والقاعدة التي توصي المسلم بالجار..

وهكذا نأتي إلى كل مفردة من مفردات الأخلاق عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنجد أن القضية هي هي.. عبد ومعبود... إنسان يؤدي الأمانة الإلهية الكبرى كأفضل ما يمكن أن تؤدى الأمانة...
.. وإذا كان الإنسان في أوقات الرخاء يمتلك فرصة أن يغير أو يناور أو يتظاهر ببعض الأشياء... فإنه في حالات الشدة ليس كذلك... إن ما يظهر في تلك الحالة هو حقيقة العلاقة وجوهرها..

ولنأخذ هنا موقفين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم:
الأول:
في الطائف بعد أن حصل ما حصل وهو يعلم منذ البداية بما سوف يحصل ولكنه الأمر الإلهي...
وبعد أن أوعز عتاق الطائف إلى غلمانهم ليتابعوا ما اقترفه طغاة مكة... وبعد ما نالت الجراحات ما نالت من جسد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم... يقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم يناجي الله تعالى بهذه الكلمات التي هي تعبير عن قمة الأدب..
(اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي وهواني على الناس... أنت رب المستضعفين وأنت ربي... إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني.. أم إلى عدو ملكته أمري... إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ولكن عافيتك هي أوسع لي... أعوذ بنور وجهك الذي أضاءت له السموات والأرض وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي سخطك أو يحل عليّ غضبك لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك..).

والثاني: في شعب أبي طالب:
عندما ألجأ المشركون المسلمين إلى الشعب ومكثوا فيه سنوات ثلاث أكلوا خلالها ما تأنف منه الأنعام... كل ذلك في سبيل مرضاة الله تعالى... وكانت الأحوال تشتد عليهم يوماً بعد يوم... ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلم بالحال ويعيش معهم تلك الأوضاع... ولم تنفع محاولات الكثيرين لإرجاع المسلمين إلى ديارهم واستمروا في هذا البلاء العظيم... وهذا ما كان يأخذ مأخذه منه صلى الله عليه وآله وسلم ولكن لم يكن ليعترض على مشيئة الله تعالى..

وفي أمسية قاسية جال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين صفوف المحاصرين... وبين رجل يتلوى من الجوع وامرأة قد أعياها التعب حتى أشرفت على الهلاك وبين صراخ الأطفال وأنين الشيوخ... أخذ كل ذلك بقلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يثبتهم... ثم سار إلى حيث انتهت جموعهم... وهناك نزل الوحي على المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وخاطبه: يا رسول الله، إن الباري يقرؤك السلام ويقول لك لو شئت لحولت لك بفيء مكة إلى ذهب... وهنا أطرق النبي صلى الله عليه وآله وسلم... وعبر بما لا يمكن لأحد أن يعبر حيث رفع رأسه ويديه إلى السماء وقال: اللهم إني أجوع يوماً فأحمدك... وأشبع يوماً فأحمدك.

وهكذا ترجع الأمور إلى نقطة البداية ومبدأ الخلق... فليس المال وسواه إلا وسيلة عيش... والأمور بالنهاية هي بيد الله عزَّ وجلَّ.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع