نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

مظاهر الخلق في الطبيعة

آية الله مشكيني


في الآية السابقة من هذه السورة (لقمان) كان البحث في المسائل الأصولية والفرعية والمعارف الإسلامية. أما في هذه الآية، الآية العاشرة من سورة لقمان، نتعرض للحديث عن المنظومة الشمسية، الكرات والأجرام السماوية، وكذلك بعض الظواهر الطبيعية مثل المطر، النبات والجبال.
هذا وإن كان القرآن، كما أشرنا سابقاً، كتاب ديني غرضه الأساسي تبيين الأبعاد الثلاثة للدين: العقائدي، الأخلاقي والعملي، لكن في مجال الطرح يتعرض لمسائل أخرى بهدف الاستدلال وتوجيه البشر إليها بما يؤيد ويؤكد هذه الأبعاد.
ومن جملة ذلك ما يطرحه في هذه الآية.
 ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (لقمان: 10).


* عمد السماوات غير المرئية
 ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيم السماوات جمع سماء، وهي مأخوذة من مادة "السمو" بمعنى الارتفاع والعلو. فكل ما علا وارتفع فهو سماء، ولذلك يقال لكل الأجسام والكرات الواقعة فوق رؤوسنا في الفضاء إنها سماء. طبعاً هناك معانٍ أخرى للسماء لا مجال لذكرها هنا، لكن ما نود ذكره أن هذه الأجرام السماوية تشمل جميع الكرات فوق سطح الأرض والتي تشكل المنظومة الشمسية جزءاً منها.
لو نظرتم في ليلة مقمرة، صافية وخالية من السحب والأغبرة إلى الفضاء البعيد، لرأيتم الكثير من الأجسام النورانية بالعين المجردة، ولو استعملتم المناظير الحديثة والمتطورة لرأيتم أن الفضاء يعج بشكل هائل بأمثال هذه الأجسام النورية، كلها تسير وتسبح في هذا الفضاء الكبير.

ويتساءل المرء: لماذا لا يحصل التصادم بين هذه المليارات من الأجسام المسماة بالنجوم؟ وكيف أنها على مدار الملايين من السنين كلٌ منها يدور في مدار مشخص وطبقاً لنظام وقانون خاص؟ بكل تأكيد إنها إرادة ومشيئته.
القرآن الكريم يطرح هذه المسألة ويبيّنها بهذه الصورة:  ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ، فما هي هذه العمد غير المرئية؟

البشر يتلون هذه الآية منذ ألف وأربعمائة سنة ولا يعلمون المقصود من العمد غير المرئية ويكتفون بذكر بعض الاحتمالات في هذا المجال، ولكن عندما اكتشفت قوة الجاذبية التي تحفظ هذا التماسك بين الأجرام السماوية والمنظومة الشمسية، تبين أن المراد من العمد غير المرئية هي قوة الجاذبية، فالجاذبية هي التي تسيّر هذه الأجرام السماوية الهائلة على مر ملايين السنين كلٌ في مدارات مشخصة ومحددة بحيث لا تحدث التصادمات المخلة بالنظام، ولكن إلى متى يبقى هذا الوضع على هذه الحالة؟
القرآن الكريم يذكر في سورة الانفطار أن زوال هذا النظام الدقيق هو من علائم ظهور يوم القيامة، يقول تعالى: (إذا السماء انفطرت وإذا الكواكب انتثرت...) وبناء عليه، فما لم يحن أوان يوم القيامة، فإن الجاذبية ضمان لاستمرار هذا النظام الدقيق والمتوازن.

* الأوتاد الحافظة للأرض
  ﴿وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُون.
الإلقاء بمعنى الرمي والوضع والرواسي جمع راسي، وهي بمعنى الشيء المستحكم والثابت، فالآية تشير إلى أن الله سبحانه جعل في الأرض أشياء ثابتة ومحكمة تحفظ الأرض من الميدان الاضطراب، والمقصود من هذه الأشياء هو الجبال.
في الماضي لم يكن واضحاً للعلماء كيف أن الجبال تحفظ الأرض، ولكن بعد تقدم البحث والتحقيق حول علم الأرض تبين أنه لولا وجود هذه الجبال التي تمتد جذورها إلى أعماق الأرض لم يكن يوجد أي مكان آمن وصالح للحياة على ظهر الأرض، ولم يكن بالإمكان ظهور الحياة المدنية والحضارات المتعاقبة، لأن الأرض سوف تتعرض لاضطرابات هائلة تحول دون توفير مستلزمات الحياة والتمدن.
وهنا تظهر عظمة هذا الكتاب الإلهي، وكل مطالع له بإنصاف وموضوعية يقطع بأنه كتاب منزل من عند الله عز وجل، لأنه أشار إلى هذه الحقائق العلمية المهمة قبل أن يكتشفها العلم بقرون متطاولة وفي محيط يعتبر من أكثر المجتمعات أمية وتخلفاً حتى عن حضارة عصره، وهذا يوضح بعض المعاني العميقة لقول الإمام علي عليه السلام في حق القرآن: "وإن القرآن ظاهره أنيق وباطنه عميق، لا تفنى عجائبه ولا تنقضي غرائبه، ولا تكشف الظلمات إلا به".

* أرض واحدة وسماوات عديدة

النكتة الأخرى الواردة في هذه الآية أن السموات جاءت بلفظ الجمع بينما الأرض وردت بصيغة المفرد، وأكثر الآيات في هذا المجال وردت بهذه الصورة، وهذه إشارة إلى أنه لا يوجد أكثر من أرض واحدة هي هذا الكوكب الذي نعيش عليه، ولكن لما كان كل ما علا الأرض يسمى سماءً، فمن الواضح وجود الملايين بل المليارات من الأجرام السماوية. ومن ناحية أخرى الأرض لها طبقات متعددة، فالطبقة الأولى هي القشرة الأرضية ثم تليها الطبقة المائية وهكذا.. حيث أن لكل طبقة خصائص معينة، ولكن في النهاية هذه الطبقات جميعاً تشكل الكرة الأرضية، ومن هذه الجهة وردت "الأرض" بصيغة المفرد في الآيات الكريمة والسموات بصيغة الجمع.

نعم ورد في سورة الطلاق قوله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا.  وقد يُظن للوهلة الأولى أن المقصود من (مثلهن) هو أنه يوجد كرات أرضية متعددة كما أن هناك سموات متعددة، ولكن الأمر ليس كذلك، لأن لفظة (مثلهن) إشارة إلى الطبقات المتعددة للأرض، ومعنى الآية أنه كما يوجد طبقات للسموات فإن الأرض أيضاً لها طبقات متعددة.
بعض العلماء يعتبر أن السماء ليس كل ما علا وسما، بل المقصود منها شيء آخر وظاهر بعض الآيات والروايات يؤيد ذلك، فهم يعتبرون أن السماء عبارة عن جسم شفاف يحتوي على مجموعة من النجوم الثابتة والسيارة، دون أن يوضحوا المادة التي يتألف منها هذا الجسم الشفاف، مثلاً يمكن اعتبار الكواكب والنجوم التي نراها بالعين المجردة في الليل عبارة عن السماء الأولى، ويؤيد هذا المعنى ما ورد أن السماء الدنيا يزينها المولى عزَّ وجلَّ بالنجوم والكواكب. يقول تعالى في سورة الصافات: ﴿إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ. وجاء في سورة فصلت: ﴿زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ ....
وجاء في سورة الملك: ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِير﴾.
وهكذا، فإن السماء الثانية والثالثة والرابعة... وحتى السابعة. كلٌّ منها يحتوي على مجموعة من الكواكب.

﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.
البث بمعنى النشر، فالله سبحانه وتعالى بث أنواعاً مختلفة من الحيوانات والدواب، لعل تعدادها يربو على الملايين، في أماكن مختلفة من الأرض، البحر أيضاً الذي هو جزء من الأرض يحتوي على أنواع متنوعة من الكائنات المائية التي تنتشر في أرجائه المختلفة. نعم يستفاد من بعض الآيات أن هذا الأمر لا يختص بالأرض فقط، بل لعل بعض الكرات السماوية تحتوي على كائنات حية. ولعل الآية 29 من سورة الشورى تشير إلى ذلك حيث يقول تعالى: ﴿ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة، فالاسم الموصول (ما) قد تكون إشارة إلى السموات والأرض.
والإسلام بما هو دين جامع له أحكام تشمل جميع الكائنات الحية سواء الموجودة على سطح الأرض أو التي تعيش في البحر، وكيفية الاستفادة منها وتشخيص أنواع الحلال من الحرام وطريقة الذبح والتزكية ولهذا أحكام مفصلة في كتب الفقهاء والعلماء الكبار.

* العلل والأسباب الطبيعية
 ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ .
في الأقسام السابقة، بُينت المسائل المختصة بالأرض كالتالي:
1- خلق الأرض.
2- إلقاء الجبال الرواسي لحفظ الأرض.
3- نشر أنواع الكائنات الحية.
ولكن هل تكتفي الأرض بهذه الأمور لتصبح صالحة للحياة عليها؟

في هذا القسم يشير تعالى إلى أهمية دور الماء في الحياة ليس فقط بالنسبة للإنسان، بل بالنسبة لكل الكائنات الحيّة حتى النباتات، والملاحظ أنه تعالى ينسب إنزال الماء إليه فيقول: ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء، مع أننا نعلم أن الشمس تبخر قطرات البحر ويتصاعد البخار ويظهر في السماء على شكل الغيوم، وعلى أثر التغيرات في الأحوال الجوية يبدأ تساقط الأمطار، إذاً فعلة وسبب نزول المطر هو هذه العلل الطبيعية، ولكن الله سبحانه يقول: ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء.

ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال موضحاً هذه المسألة: قال أبو عبد الله عليه السلام: "أبى الله أن يجري الأمور إلا بالأسباب، فجعل لكل شيء سبباً..".

إذاً، لا يمكن أن يحدث أي معلول من دون علة، ولا أي حادثة من دون محدث، ولكن جميع الحوادث والظواهر الكونية تتحقق تحت مشيئة الله وبإذنه وإرادته. وبتعبير آخر: الله سبحانه خالق جميع العلل والمعلولات وقد جعل تعالى لكل معلول علة، ولما كانت جميع العلل والعوامل الطبيعية في إيجاد الماء وتساقط المطر تحت مشيئة الله وإرادته فقد نسب إنزال المطر إليه، ولا منافاة في البين.

الله سبحانه الذي وضع نظاماً للشمس بحيث تؤثر في مياه البحر وتحوله إلى بخار يتصاعد في السماء، وفي الطبقات العليا عندما تصطدم الكتلة الحارة بالهواء البارد وتتحول إلى قطرات بصورة الثلج تتساقط إلى الأرض، وعلى إثر ارتفاع حرارتها تتحول إلى قطرات مائية في معظم الأحيان، ولكن كل هذه العوامل الطبيعية مقررة في القانون الإلهي وبإذنه ومشيئته.
﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيم.

لقد أنبت الله تعالى على هذه الأرض بعد اجتماع العلل والشرائط من كل أنواع النبات والأشجار التي ينتفع منها الإنسان المنافع الكثيرة جداً، ويستفاد من هذه الآية أن الزوجية والتوالد والتلقيح، أموراً ليست مختصة بالإنسان والحيوان، بل هي موجودة في كل الموجودات.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع