يقول حجة الإسلام الشيخ عباس علي عميد زنجاني، عضو مجلس الشورى الإسلامي:
حضرت لأول مرة درس سماحة الإمام الخميني قدس سره في قم المقدسة عام 1959م.. وقد اخترت هذا الدرس واعتبرته درساً أساسياً لي لسببين رئيسيين:
1- كنت مطّلعاً على عددٍ من دروس الخارج، وتصوّرت أنني بهذا العمل اخترت أفضلها.
2- ملاحظة صدرت من الإمام، جعلتني أتخذ درس الإمام درساً أساسياً لي.
الملاحظة كانت التالية: في أحد الأيام، اقترح بعض الطلبة على الإمام أن يبدأ درسه مبكّراً ليتسنى لهم الاستفادة من دروس بعض العلماء الآخرين الذين كانت دروسهم تبدأ مباشرة بعد درس الإمام.
هذا الاقتراح دفع بالإمام أن يلفت الأنظار إلى عدة نقاط مهمة ركّز عليها أمام الطلبة قبل أن يبدأ درسه وهي:
1- "ما دمتم في عمر الشباب، اسعوا من أجل أن لا تغرس الخصائص السيئة جذورها في وجودكم، لأن هذه الخصائص ستترسخ مع العمر، وسيصل الإنسان إلى حالة يصعب فيها التخلص منها. لذا فإن عليكم أن تعتادوا على تنمية العادات والخصال الجيدة والحسنة في شخصيتكم.. سأحاول أن أبدأ الدرس مبكراً، ولا أظنني قادراً على ذلك!".
بالطبع فإن مثل هذا الكلام يدل على مدى تواضع الإمام، إلا أنه على أية حال كان درساً ثميناً بالنسبة لنا كطلبة.
2- "اسعوا من أجل أن تختاروا لكم أستاذاً ودرساً أساسياً وتركزوا على ذلك الدرس. وحتى لو كنتم تحضرون درساً آخر، فليكن ذلك إلى جانب هذا الدرس الأساسي. لذا فإن عليكم أن لا تضحّوا بالدرس الأساسي على حساب الدروس الجانبية.
احضروا في جميع دروس السادة العلماء، ودقّقوا فيها جيداً وانتخبوا أحدها ليكون درساً أساسياً، وركّزوا عليه أكثر من الباقي، لأن الاكتفاء بالتنقل من درس لآخر لا يفيد الطالب، ويحط من منزلة الطلبة".
3- "الدارسة لا تعني أن يدرس الإنسان من أول عمره حتى آخره؛ أو أن يحضر الإنسان في دروس الفقه من البداية وحتى النهاية. بل إن عليكم أن تنتخبوا كتاباً من مباحث المعاملات، وآخر من العبادات وأن تقرأوا هذين الكتابين بتمعن ودقة متناهية؛ وتكتفوا بمطالعة سريعة لباقي الكتب، لأنه لا يمكن اتخاذ جميع الفقه درساً للطلبة".
ولا زلت أذكر أنني تأثرت كثيراً بهذه الملاحظات واستفدت منها قدر استطاعتي، ولا زلت أحاول قدر الإمكان أن أكون ملتزماً بها.
وقد اعتاد سماحة الإمام قدس سره الإشارة إلى ملاحظات أخلاقية أثناء إلقاء درسه، وكان يخصص فترة لا بأس بها من مدة الدرس للأحاديث الأخلاقية، وقد يستغرق ذلك أحياناً جميع الفترة المخصصة للدرس.
وكانت هذه الملاحظات تترك أثراً عميقاً وبنّاءً في نفوس الطلبة، وكان يسود الدرس أثناء ذلك صمت مطبق ومثير للانتباه، وكان الإمام بحديثه العرفاني والإيماني الخالص يجذب إليه قلوب الحاضرين، وهذا يدل على مدى حاجة الطلبة إلى مثل هذه الإرشادات والنصائح.
من الذكريات الأخرى التي لا زالت عالقة في ذهني تعود إلى تلك الأيام التي انتقل فيها درس الإمام إلى مسجد (سلماسي) في مدينة قم المقدسة.. ففي الأيام الأولى كان الإمام يجلس على الأرض أثناء إلقائه الدرس؛ وبعد مضي وقت قصير ازداد عدد الطلبة وامتلأ المسجد، وكان بعض الطلبة أحياناً لا يجدون مكاناً لهم في داخله، مما يضطرهم إلى الوقوف عند مدخله أو خارج المسجد.
ولمعالجة هذه الحالة طُلب من سماحة الإمام أن يجلس على مكان مرتفع حتى تتم الاستفادة أكثر من حديثه، فوافق الإمام على هذا الطلب، وأُعدّ لسماحته منبر صغير.. ففي اليوم الأول، صعد الإمام المنبر لأول مرة، وبدأ بإلقاء الدرس على الطلبة مؤكداً على هذه النقطة الهامة: إن الجلوس على مكان مرتفع لا يكسب الإنسان شخصية معينة، وينبغي أن لا يؤدي إلى غروره وتكبّره.. واستمر سماحته في شرح أضرار الغرور والعجب والكبرياء ولا سيما للعلماء والطلبة، وبذلك نحول درس الأصول إلى درس في الأخلاق والعرفان في ذلك اليوم الذي ولن ينسى أبداً..