الشيخ خضر ديب
آفةٌ من أشدّ الآفات فتكاً بالمحبّة والود، رغم أنها أحد مظاهر الود أيضاً. ومن جهة أخرى، هي سياج وحماية، ووجودها دليل اهتمام ورعاية... تلك هي الغيرة، سلوك شائك يصعب تغييره، لكنه يسهل حين نكتشف دوافعه...
*الغيرة
الغيرة، هي أحد الأخلاق الحميدة والمَلَكات الفاضلة. وهي تغَيُّرُ الإنسانِ عن حاله المعتاد، ونزوعه إلى الدفاع، والانتقام عند تعدّي الغير إلى بعض ما يحترمه لنفسه من دين أو عرض أو جاه، ويعتقد كرامته عليه.
فيمكن للغيرة أن تسبّب مشاكل في الحياة الزوجيّة إذا خرجت عن حدّها المقبول والطبيعي، وتحوّلت من حالةٍ صحيّة إلى حالةٍ مرضيّة.
في غيرة الرجل على المرأة، وغيرة المرأة على الرجل، ما هو الحد المشروع الذي يقبله الشرع؟
وما هي سبُل علاج الغيرة المذمومة على استمرار العلاقة الزوجيّة؟
*غيرة الرجل
بملاحظة المعنى اللغوي نجد أن لغيرة الرجل خُلُقاً إيجابياً:
غار: يغار، غيرة الرّجل على امرأته من فلان، وهي عليه من فلانة: أنف من الحميّة وكره شركة الغير في حقّه بها، وهي كذلك.
وهذه الغريزة لا يخلو منها، في الجملة، أيّ إنسان، فهي من الأمور الفطرية، والإسلام دين مبني على الفطرة.
فإن منع الرجل ونفوره عن مشاركة غيره في زوجته، هو أمر من الواجب عليه شرعاً وعقلاً فهو من الإيمان ووظيفة دينيّة، ولكن منع المرأة زوجها ونفورها عن الشركة مع زوجة أخرى، قد يكون في بعض الحالات مخالفاً لما قرّر في القرآن من تشريع تعدّد الزوجات.
لقد حثَّ الكثير من الروايات الشريفة على التحلّي بصفة الغيرة، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّي لغيور، والله عزّ وجلّ أغير منّي، وإنّ الله تعالى يحبّ من عباده الغيور"(1).
*آفة غيرة الرجل
الغيرة، كما اتضح، صفة شريفة، وهي دليل صحّة وعافية، ولكن إذا وُضعت في غير محلها أو خرجت عن حدودها وطورها انقلبت إلى مرض. وقد تتسبّب بالمشاكل الأسريّة إذا وصلت إلى حدٍّ شعرَت الزوجة معها بعدم ثقة الزوج بها. وفي الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من الغيرة ما يحب الله، ومنها ما يكره الله، فأمّا ما يحب فالغيرة في الريبة، وأمّا ما يكره فالغيرة في غير الريبة"(2).
ويشير بعض الروايات إلى أنّ هذه الغيرة في غير محلها قد توصل المرأة إلى الانحراف! فقد حذرت منها الرواية عن أمير المؤمنين عليه السلام في وصيته لابنه الحسن عليه السلام: "إياك والتغاير في غير موضع الغيرة، فإن ذلك يدعو الصحيحة منهنَّ إلى السَقَم"(3).
*غيرة المرأة
إنّ الغيرة بمعناها السلبي من الأمراض التي يمكن أن تبتلى بها المرأة، فتندفع من خلالها للقيام بخطوات سلبية تؤذي الزوج وتوتر أجواء العائلة، وعندما تتحدث الروايات عن الغيرة عند المرأة تقصد الجانب السلبي منها الذي له آثاره السلبية والمدمرة، لا الحالة الإيجابية. لذلك، نجد في الرواية أنَّ رجلاً ذكر للإمام الصادق امرأته فأحسن عليها الثناء، فقال له أبو عبد الله عليه السلام: "أَغَرْتَها؟ قال: لا، قال: فأَغِرها، فأغارها فثبتت، فقال لأبي عبد الله عليه السلام: إني قد أغَرتَها فثبتت، فقال عليه السلام: هي كما تقول"(4).
*الأسباب:
تختلف الأسباب النفسية عند المرأة للغيرة، فيمكن أن يكون سببها:
- إيجابياً، كما أشارت الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام حيث سأله أحدهم: "المرأة تغار على الرجل تؤذيه؟ قال: ذلك من الحب"(5)، وهذا النوع من الغيرة لا بدّ أن تكون نتائجه غير ضارة، لأنّ الحب ينتج عنه المراعاة والمصلحة، ولا يوصل الأمور إلى المشاكل.
- سلبياً، كما أشارت الرواية عن الإمام الباقر عليه السلام: "غَيرة النساء الحسد، والحسد هو أصل الكفر، إنّ النساء إذا غِرن غَضِبْنَ، وإذا غَضِبْنَ كَفرن إلّا المسلمات منهنّ"(6). فعندما تنطلق الغيرة من شعور بالنقص والحسد للآخرين، فمثل هذا سيكون مدمّراً وله نتائج سلبيّة بالتأكيد، وهو الذي يوصل للغضب ومخالفة الضوابط الإسلاميّة.
* النتائج:
- كثيراً ما تكون نتائج الغيرة سلبيّة ومدمّرة، فالتي تغار تفقد - غالباً - تعقّلها، ويصبح الحاكم على تصرفاتها الغضب والتوتر، وتفقد الواقعيّة في تقييم الأمور، والعقلانيّة في التصرّف. وقد ورد في الرواية عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "إن الغَيْراء لا تبصر أعلى الوادي من أسفله"(7)، وعندما يفقد الإنسان بصيرته سيكون عرضة لكل أنواع المشاكل والسلبيّات.
*لماذا غيرة المرأة كُفر؟
ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: "غَيرة المرأة كفر، وغيرة الرّجل إيمان"(8).
لأن غَيرة المرأة تحرّم على الرجل ما أحلّ الله له من زواج متعدد، أما غَيرة الرجل فتحريم لما حرّمه الله وهو الزنا.
ومن خلال بعض الحالات التي قمنا بمتابعتها يمكن أن نسجّل عدة أخطاء وتجاوزات تقوم بها الزوجة نتيجة "الغيرة السلبيّة":
أ- النشوز، بحيث لا تطيع زوجها حتى في الأمور التي يجب عليها الالتزام بها (خروج من البيت، حقوق خاصة).
ب- التجسس على المكالمات الهاتفية، وهذا غير جائز وإن كانت زوجته.
ج- التسبّب في غضب زوجها عليها.
وهذه الأمور، بطبيعة الحال، تسبّب الطلاق، وتشتت الأسرة، وخاصة مع وجود أبناء في سن المراهقة. كل ذلك بسبب "الغيرة" و"الشك" وعدم تحكيم الشرع والعقل، بل تحكيم العاطفة، والعنفوان؛ ومع ذلك، على الزوج أن يقوم أيضاً في التخفيف من غيرة الزوجة.
*سلوك الزوج الواعي
كيف يستطيع الرجل أن يساهم في استيعاب غيرة المرأة بدل تأجيجها؟
إنّ أفضل ما يقوم به الرجل تجاه زوجته، هو السعي إلى الاقتراب منها، وفَهم مشاعرها، وما يعتمل في قلبها، ولا شك في أنّ هذا الإدراك سيساهم في حلّ المشاكل، أو التخفيف من حدتها.
ويمكن أن نحدّد عدّة أمور تساعد في ذلك:
1- المحافظة على الحقوق المشتركة بين الزوجين؛ إذ إنّ تغافلها يسبّب المشاكل، ومنها الغيرة.
2- الالتفات إلى التجدّد في الحياة المشتركة، إذ إنّ الشقاء يبدأ عندما يشعر أحد الطرفين أو كلاهما بالرتابة المملّة.
3- الصدق والمصارحة والتخفيف من الأسرار بين الزوجين.
4- حُسن المعاشرة.
5- إلغاء السلوكيات المثيرة لغَيرتها.
*توجيهات الروايات للزوجين
وهنا يحسن بنا أن نقوم بجولة على بعض الروايات الواردة حول هذا الموضوع، عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة أهل البيت عليهم السلام:
1- توجيهات للزوج:
من حقّ الزوجة مداراة الزوج لها وحسن صحبته لها. قال أمير المؤمنين عليه السلام في وصيته لمحمد ابن الحنفية: "إنّ المرأة ريحانة وليست بقهرمانة، فدارِها على كل حال، وأحسن الصحبة لها فيصفو عيشك"(9).
ثم إنّه لا غنى للزوج عن ثلاثة أشياء، فيما بينه وبين زوجته وهي:
أ- الموافقة، ليجتلب بها موافقتها ومحبّتها وهواها.
ب- حسن خُلُقه معها، واستعماله استمالة قلبها بالهيئة الحسنة في عينها.
ج- توسعته عليها.
2 - توجيهات للزوجة:
ولا غنى بالزوجة فيما بينها وبين زوجها الموافق لها عن ثلاث خصال وهن:
1- صيانة نفسها عن كل دنس حتى يطمئن قلبه إلى الثقة بها، في حال المحبوب والمكروه.
2- حياطته [الرعاية والاهتمام]، ليكون ذلك عاطفاً عليها عند زلّة تكون منها.
3- إظهار العشق له بالخلابة [القول الطيّب] والهيئة الحسنة لها في عينه(10).
فمسؤولية صيانة العلاقة الزوجيّة، ونجاحها هو مسؤولية الزوج أولاً؛ لأنه هو القيّم، والأكثر قدرة على التحكّم بمشاعره، ومسؤولية الزوجة، ثانياً.
لذا، ينبغي التأمّل كثيراً في الرواية التي أمر فيها بالمداراة، فهي الدواء السحري للكثير من المشاكل والخلافات بين الزوجين.
1.ميزان الحكمة، محمد الريشهري، ج3، ص2342.
2.م.ن، ص3243.
3.وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج2، ص237.
4.الكافي، الشيخ الكليني، ج5، ص505
5.الوافي، الكاشاني، ج22، ص769.
6.الكافي، م.س، ج5، ص505.
7.م.ن.
8.نهج البلاغة، حكمة الأمير (124).
9.تربية الطفل في الإسلام، مركز الرسالة، ص16.
10.بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج75، ص237.