الشيخ محمد باقر كجك
"صباحي صباح الشؤم"، هكذا يبدأ النهار في المنزل. وأول أمنية تخطر على بالي أن لا أسمع رنة الهاتف عند الساعة السابعة تماماً.
*عاصفة لا تهدأ
جلست على طاولة السفرة. زوجتي تنقل صحن اللبنة وحاوية زيت الزيتون. كانت تدندن بشيء ما. لو أنها تسكت في هذه اللحظة ربما يكون أفضل. سيرن الهاتف، ولن أستطيع أن أتحمَّل صوتهما معاً. وضعت اللقمة الأولى في فمي، ورنّ الهاتف، وبقيت زوجتي تدندن، بتوتّر. نظرَت في عينيَّ، ونظرتُ في ما وراء الوقت. "ماما، يا عيني أنت، أكلتَ؟ شربتَ؟ لبستَ قميصك الجديد الذي اشتريته لك الأسبوع الماضي؟ أرجو أن يكون مكوياً! لا تنس أن تمر بنا في وقت الغداء، كما لا تنس الليلة سنذهب معاً إلى بيت خالتك..". كانت زوجتي لا تزال تدندن، عيناها مملوءتان دمعاً، نظرتها تلسَع جلدي.
ودّعتني عند باب المطبخ، وسمعتها تجهش بالبكاء، إنه يوم أسود بالتأكيد. أنا بين فكّي كمّاشة: رضا أمي، وعاطفة زوجتي المتّقدة.
إنَّه مشهدٌ شبهُ يومي. الحياة أضحت جحيماً لا يطاق.
لا يمكن أن تستمر الحياة كعاصفة لا تهدأ، بين والدةٍ لا تستكين طوال النهار والليل، وزوجة تقعد في منزل لا دفء فيه. إنّه مشهد مأساوي في الصميم، وكلّ الأطراف هنا تطالها الأذيّة اليوميّة.. متى سيحصل الانفجار؟
*ساحة المواجهة
قال لي أحد العلماء المقدّسين: "كلّ مشاكلنا في المنزل ناتجة من وجود الكلب فيه، فالملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب"(1).
وقلت في نفسي، فعلاً، منزلي لا ملائكة تدخله. الغضب والشهوة وحب النفس والهوى تتصارع فيه.
وكيف تدخل الملائكة إليه؟ أشعر أنّ كلَّ شيء فيه هنا يسير بروحٍ مضطربة غير ملكوتيّة.
على مائدة الطعام، تدور رحى معركة بين زوجتي وأمي في فنّ الطهو. كأن إعداد الطعام الألذِّ وإرضاءَ حضرة جنابي شيءٌ له أولويّة في حياتي!
لقد أصبحت أكره مائدة الطعام، كأنّها مائدة عبادة النفس، كلّ واحد منا يكاد يعبد هنا وثناً: الطعام، هوى النفس، والتفاخر، وتحطيم معنويّات الآخر. إنه مكانٌ خالٍ من الله، ومليءٌ بأشباح مسعورةٍ ناهشةٍ لكلِّ شيءٍ جميلٍ.
وأمَّا الآن، فقد تحوَّلت المواجهة من التفاخر بنظافةِ وترتيب الأثاث والمنزل، والمهارة في جلي الأواني وغسل الثياب، وامتلاك الأثاث الأفضل، والسيارة الأحدث والهاتف الأذكى، والإمكانات المختلفة، إلى شيء مقيتٍ متعب مهلكٍ. وأنا أسير بينهما كحصانٍ لا همَّ له سوى تأمين أدوات هذا التنافس.
لو كان الأمر له هذا السَّقف فقط لكان الأمر محمولاً.
لكن روح الغضب السَّاكنة في جدران منازلنا حوّلت المنافسة إلى شيء أخطر. فلم تعد والدتي وزوجتي تتنافسان على الأشياء فقط. إنهما تتنافسان على "السلطة"، السلطة على كلِّ شيء.
كنتُ أتخيّل كلَّ الاحتمالات، لكن أن تصبح الكلمة الحلوة البريئة التي تبرع المرأة في قولها في الوقت المناسب والكيف المناسب، للأب والابن والزوج، مضماراً للتنافس، هو أمر لم أكن أتوقّعه. "صاحبة اللسان الحلو!" هو عنوان معركة دائمة بينهما، بل حتى الاهتمام بالواجبات الدينية، وإقامة مجالس الذكر، والحج، والزيارة، أصبحت مضمار تنافس أيضاً!
إنها حالة تستدعي منا جميعاً أن نتوقّف ونفكّر.
*محورٌ مكسور
حول أيّ محور تدور الأمور هنا؟ الغائب الأكبر هو الله تعالى. تفاجأت في أحيانٍ كثيرة أنّ الحاضر الأكبر في قلبَيْ والدتي وزوجتي هو "أنا"! لقد وضعتاني موضعاً لا أستطيع تحمّله، ولن أكون أهلاً له!
أنا محورٌ رقيقٌ مكسورٌ لا يتحمَّل أن يدور حوله أحد.
قلتُ لهما ، كلٍ على حدة، المشكلة هو أنكما تدوران حول محورٍ خاطئ. تدوران حولي، ولا تريان "فيَّ" إلا "نفسيكما" أنتما.
والدتي: صحيح أنك ربيتني لسنوات طوال، غير أنّك لم تربني لكي أبقى وليدك. كانت تلك مهمتك الإلهية الكبرى. والآن أنت في الثلث الأخير من عمرك، مهمتك أن تستثمري كلّ ما زرعت لكي يقرّبك من الله أكثر. هل فكّرت فيّ أنا كطريق لك إلى الله؟ والطريق إلى الحقِّ تعالى يمر بالضرورة في ميدان خدمة الخلق(2)، أليست زوجتي من خلق الله؟ كيف تسهّلين عليّ خدمتها؟
زوجتي: صحيحٌ أني زوجك، ولك علي كامل حقوق المودة والرحمة التي فرضها الله، ورضيَ بها قلبانا، إلّا أنّ الحياة تقتضي أن أعيش مع الخلق. لا نجاة لي إلّا إذا كنت إنساناً آنس الناس حولي وأكون في خدمتهم. وأمي لها عليّ حق. هي ليست مشروع منافسة معك. والكلمة الحلوة التي أقولها لها واجب عليَّ، والوقت الذي أعطيه لها هو عبادة. وإذا جعلتِها أنت عدواً لك، وهي جعلتك كذلك، فإنّ أول الخاسرين هو أنا. سأخسركما معاً. ابحثي عن مفتاحها. ربّما تغار منك، لأنك فتيّةٌ، جميلة، وذكية وإرادتك أقوى، ولذلك تخاف منك ومن احتمالات خسران مساحة سلطتها. كوني ذكيّة معها. لا تغضبي. أنا معك في هذا الدرب.
وقلت لنفسي: الوحشُ هو الغضبُ، والوحشُ هو حب الظهور الساكن فينا جميعاً. أنا لا أريد إلّا أنْ أضع قدمي على طريق السير إلى الله. الأعداء كثر. المشاكل كثيرة. هناك مفاهيم استكبارية كبرى تخنق الدنيا. هناك وحوش كثيرة في بيت هذا العالم، ولا بد أن نطردها، فالعالم محضر الله. لماذا لا يكون منزلي منزلاً للملائكة، وزوجتي ووالدتي هما اللتان تملكان المفتاح؟
*البيت المعمور(3)
الحق كلمة واحدة. يحتاج الأمر إلى شجاعة صادقة. وأنا رجلٌ عندما أقول كلمة ألتزم بها. أول خطوة ينبغي أن أخطوها هنا هي في إعادة توجيه بوصلة الجميع: بوصلة حب الله تعالى. علينا أن نبحث عن الله في كل زاوية في هذا البيت، لأنّ الله محيط وموجود في كل شيء. عندما يصبح الطعام مصنوعاً بمحبة الله ولا يوجد فيه أذية لا للوالدة ولا للزوجة، يصبح ألذّ طعام. وعندما يصبح الوقت الموزّع بشكل جيّد بين البرّ بالوالدين والمودة للزوجة، في سبيل الله، يكون للبرّ آثاره المضاعفة، وللحب الزوجي الدفء اللذيذ.
سأخبرهما بقراري، ستضحكان عليّ، ربما. ستظناني أتهمهما بقلة التديّن، ولكني سأتكلم معهما بلغةٍ عاشقة وعين دامعة. أنا محور رقيق مكسور لا أتحمّل وزني أنا فكيف بأثقال الآخرين؟!
سنطرد وحوش الغضب والشهوة(4) من قلوبنا الخربة، وندخل ملائكة السماء لبيتنا الخرب.
سنحوّلها إلى بيت معمور بحب الله تعالى.
أمي وزوجتي، الحماة والكنّة، هما طاقتان وقوّتان كبيرتان للحب، إذا كان الحبّ لله، فستتحوّل بيوتنا إلى بيوت معمورة، وإذا كان الحب للنفس والهوى، خربت بيوتنا وغادرتها الملائكة وسكنتها السباع.
1.روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب". المبسوط، الطوسي، ج4، ص323.
2.عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الخلق كلهم عيال الله فأحبهم إلى الله عزَّ وجلّ أنفعهم لعياله"، وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج16، ص345.
3.عن الإمام الصادق عليه السلام: "ما خلق الله خلقاً أكثر من الملائكة، وإنّه لينزل كل يوم سبعون ألف ملك فيأتون البيت المعمور فيطوفون به، فإذا هم طافوا به نزلوا فطافوا بالكعبة، فإذا طافوا بها أتوا قبر النبي صلى الله عليه وآله فسلموا عليه". وسائل الشيعة، ج14، ص375.
4.روي عن الإمام علي عليه السلام: "ضلال النفوس بين [دواعي] الشهوة والغضب". الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، ص310.