نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

الآداب المعنوية للصلاة: التفهيم



إن لكل العبادات حقيقة وغاية هي ذكر الله تعالى، هذا الذكر الذي لا يحصل بمجرد لقلقة اللسان، بل بحضور القلب وتوجهه إلى المعبود الحق، فإذا لم يكن الذكر منبعثاً من فهم الحقيقة كان خاوياً، بل أن مرتبة كل ذكر إنما تكون بحسب هذا الفهم.

يبين الإمام الخميني قدس سره في "الآداب المعنوية للصلاة" أن التفهيم يعد أحد الآداب القلبية لجميع العبادات وخصوصاً العبادات المشتملة على الذكر.

هذا، وإن كانت جميع العبادات تهدف إلى إيصال العابد إلى الحضور في محضر الله، إلا أن هناك عبادات أشد اختصاصاً بالذكر، فالحضور هو عين الذكر، لأن الذاكر يكون ملتفتاً ومتوجهاً إلى المذكور، وكلما قوي الذكر واشتد زاد التوجه والحضور. قال الله : ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾.

من هنا، فإن حقيقة كل عبادة هي ذكر الله سبحانه، وهذا الذكر في جوهره هو التوجه إلى المعبود، وأن هذا التوجه لا يحصل إلا بالمعرفة، فكيف يكون الإنسان متوجهاً إلى ما لا يعرفه!! إلا إذا كانت معرفته إجمالية، فإن توجهه يكون على نحو الإجمال أيضاً.

ولأن قيمة كل عبادة تكون بحسب الذكر، فإن بعض العبادات تكون فاقدة للاعتبار لأنها تقوم على الذكر الذي يفتقد إلى أدنى مراتب التوجه، فالذاكر هنا وإن كان يستخدم الألفاظ الجليلة، إلا أنه لا حظَّ له إلا تعب اللسان. يقول الإمام الخميني قدس سره: "أما الذكر اللساني فهو بدونه (الذكر القلبي) ذكرٌ بلا لب وساقط عند درجة الاعتبار بالمرة، كما أشير إلى ذلك في الأحاديث الشريفة غير مرة، فعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلمأنه قال لأبي ذر: "يا أبا ذر ركعتان مقتصدتان في تفكر خير من قيام ليلة والقلب لاهٍ (ساهٍ)".

إن حقيقة الذكر اللساني هي تردد ذبذبات الصوت في الهواء، وأن هذا التردد لا يخرج عن كونه من آثار وخصائص المادة والطبيعة، ومن غير المعقول- كما ثبت في الحكمة المتعالية- أن تكون المادة منشأً للآثار المعنوية بحد ذاتها، لذلك فإن ما يُتصور بشأن حدوث الكرامات والخوارق من خلال ترديد الأذكار اللساني هو أمر وهمي لا أساس له من الصحة.

وإنما هي النفس التي تكون منشأ الآثار الخارجية وغيرها في حدود عالمها وكلما قويت هذه النفس ازداد تأثيرها إلى الدرجة التي يمكن معها أن تؤثر في غير البدن المتصل. ولقد ثبت أيضاً أن لا مؤثر في الوجود إلا الله ولا قوة إلا منه سبحانه وتعالى، فيعلم عندئذٍ أن استمداد هذه النفس من مصدر الوجود وأصل الكمال إذا وصل إلى أوجه يؤدي إلى صيرورة الإنسان مظهراً للقدرة الإلهية، كما ورد بشأن علي عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "علي يد الله".

وأن هذا الاتصال لا يمكن أن يحدث إلا من خلال الانقطاع التام إلى الله عما سواه، والحضور الأتم في محضره سبحانه، وهنا يأتي دور العبادة والذكر. فالعبادة هي التوجه المستمر إلى المعبود الأوحد والاتصال بفيضه المطلق جلّ وعلا.
فهل يمكن حصول مثل هذه الآثار الوجودية بدون التوجه والفهم؟

يقول الإمام الخميني قدس سره:
"وبالجملة ففي أول الأمر، لا بد أن يلاحظ الإنسان هذا الأدب: أي التفهيم حتى ينفتح لسان القلب الذي هو المطلوب الحقيقي". فحقيقة الفهم هو المعرفة، والتفهيم هو تلقين القلب تلك المعارف الإلهية لتسري عبر الذكر والعبادة إلى مملكة وجود الإنسان، وتصبح العبادة عندئذٍ مقبولة. فالتفهيم تابع للمعرفة، لذلك يقول الإمام قدس سره:"ويفهم القلب الحقيقة التي أدركها في المرتبة التي هو فيها".

وأن هذه الجملة تعتبر من أعظم المسائل العرفانية التي بيّنها الإمام الخميني حيث ذكر أن درجة روحانية كل إنسان تكون بمقدار معرفته، ويستحيل أن تتجاوز هذه الروحانية مرتبة المعرفة وإلا كانت نفاقاً.

إن حقيقة الروحانية هي تجلّي المعرفة في القلب. نعم، قد تكون المعرفة أحياناً أعلى من الروحانية، لذلك يحتاج إلى العبادة والذكر لكي تسري الحقيقة إلى المملكة الإنسانية.

* كيفية التفهيم
هنا يشرح الإمام كيفية إجراء هذا الأدب، وذلك بالتعامل مع النفس والقلب كالطفل الصغير:
"إن الإنسان يعد قلبه في أول الأمر كطفل ما انفتح لسانه، وهو يريد أن يعلّمه كلاً من الأذكار والأوراد والحقائق وأسرار العبادات بكمال الدقة والسعي ويفهم القلب الحقيقة التي أدركها".

ولأن إدراك الحقائق يتم بصورة تصاعدية في حال العبادة، أو بتعبير آخر، لأن العمل يورث العلم والعبادة تورث اليقين فإن كل كشف ينبغي اغتنامه وتفهيم القلب حقيقته:
"وإن كشفت له حقيقة من حقائق المعارف أو كشف له سر من أسرار العبادات، فليعلّم القلب ذاك المكشوف بجد واجتهاد".


 ويقول سلام الله عليه:
"فالقلب أيضاً في أول الأمر طفل ما انفتح لسانه بالكلام، ولا بد له من التعليم، وأن تُلقن له الأذكار والأوراد، فإذا انفتح لسان القلب يكون تابعاً له، وترتفع مشقة الذكر وتعب التعليم وملالة الذكر وهذا الأدب ضروري بالنسبة للمبتدئين".

فلأن القلب هو أمير البدن وبصلاحه تصلح المملكة الإنسانية، وبخضوعه تخضع جميع الأعضاء والجوارح، اهتم الشرع الأنور بهذا الأصل واعتبره ضرورياً بالنسبة للمبتدئين الذين يبحثون عن الجذبة.

إن العبادة الفاقدة للّب والتوجه القلبي فاقدة للاعتبار وأن الذكر قبل مرحلة القلب لا قيمة له إلا إذا اقترن بالتفهيم، والتفهيم لا يحصل إلا بالفهم، والفهم وليد المعرفة ولذلك قيل: "لا تصح عبادة بدون معرفة".

ويستفاد من هذا الكلام الذي ذكره الإمام أن الذكر اللساني ليس مرفوضاً مطلقاً، وليس كما تصور البعض عن الإمام حيث أسقطوا بعض النصوص الصوفية عليه، فقد ظن البعض أن الإمام لا يعتني إطلاقاً بالذكر اللساني لأنه اعتبره فاقداً للقيمة،والواقع أن الإمام يريد أن يؤكد على مسألتين:
الأولى:
أن الاقتصار على الذكر اللساني هو الخطأ ولن يؤدي إلى أي نتيجة.
الثانية: أن الذكر اللساني إذا اقترن بالتفهيم يؤدي إلى النتيجة المطلوبة من العبادة.

وعلى أثر هذا التفهيم في العبادة ينفتح لسان القلب ويصبح القلب ذاكراً ومتوجهاً في كل الأحوال:
"ففي أول الأمر كان القلب متعلماً واللسان معلّماً، والقلب كان ذاكراً بذكر اللسان وتابعاً له في الذكر وأمّا بعد ما انفتح لسان القلب فيكون الأمر معكوساً، فيكون القلب ذاكراً أولاً ويتبعه اللسان في الذكر والحركة.
بل ربما يتفق أن الإنسان في حالة النوم يكون لسانه ذاكراً تبعاً للذكر القلبي، لأن الذكر القلبي لا يختص بحالة اليقظة، فإذا كان القلب متذكراً يكون اللسان التابع له أيضاً ذاكراً ويسري الذكر من ملكوت القلب إلى الظاهر:  ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً ﴾.

ويشير الإمام هنا إلى كلام أمير المؤمنين عليه السلام في وصف المتقين: "إن كان في الغافلين كتب في الذاكرين".

* مراتب التفهيم
وبما أن التفهيم يتبع إدراك الحقيقة، ذكر الإمام مراتب للحقيقة هي في الواقع مراتب التفهيم:
1- "فإذا لم يكن من أهل فهم معاني القرآن والأذكار وليس له نصيب من أسرار العبادات فيفهّم القلب المعنى الإجمالي، وهو: أن القرآن كلام إلهي، والأذكار مذكرات بالحق تعالى والعبادات والطاعة إطاعة لأمر الرب ويفهم القلب هذه المعاني الإجمالية

2- "وإن كان أهلاً لفهم المعاني الصورية للقرآن والأذكار فيفهم القلب المعاني الصورية من الوعد والوعيد والأمر والنهي ومن علم المبدأ والمعاد بالمقدار الذي أدركه".

3- "وإن كشفت له حقيقة من حقائق المعارف أو كشف له سر من أسرار العبادات فيعلّم القلب ذاك المكشوف بجد واجتهاد".

*علامات حصول التفهيم
فإا انفتح لسان القلب وسرت العبادة من الظاهر إلى الباطن يبدأ السالك بتذوق حلاوة العبادة.

"وعلامة انفتاح لسان القلب أن يرتفع تعب الذكر ومشقته ويحصل النشاط والفرح ويرتفع الملل والألم، كشأن الإنسان إذا أراد أن يعلم الطفل الذي لم يشرع في التكلم،، فما دام الطفل لم يتعلم التكلم فإن المعلم يكون في تعب وملالة، فإذا انفتح لسان الطفل وأدى الكلمة التي علمها له ارتفعت ملالة المعلم، ويؤدي المعلم الكلمة تبعاً لأداء الطفل لها من دون ألم وتعب" (الآداب- ص 66).

*التكرار
فيأتي هنا دور التكرار الذي نلحظه بشكل واضح في البرنامج المعنوي للإسلام، فإن التكرار مع التفهيم هو مفتاح لسان القلب، ولذلك "كان أولياء الله يلاحظون هذا الأدب حتى الكمّل منهم كما في الحديث أن مولانا جعفر بن محمد الصادق عليه السلام كان في صلاته فغشي عليه فلما أفاق سئل عن سببه، فقال: ما زلت أردد هذه الآية على قلبي حتى سمعتها من المتكلم بها فلم يثبت جسمي لمعاينة قدرته".
وأيضاً ورد في الحديث بشأن التكرار عن الإمام الصادق عليه السلام: "يا أبا أسامة أوعوا قلوبكم ذكر الله واحذروا النكت".

وروي عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وآله ليلة يردد قوله تعالى: ﴿إن تعذبهم فإنهم عبادك وأن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم.

ويذكر الإمام في خاتمة الكلام ملاحظة حول الذكر القلبي فيقول: وإن اتفق في موردٍ حصول الأمور المذكورة بدون رعاية هذا الأدب فهو من النوادر، ولا يجوز للإنسان أن يغتر به".
أي أن حصول الآثار الإيجابية من جراء الذكر اللساني أمر نادر ولا يعود إلى الذكر هنا بل إلى أمر آخر لم يلتفت إليه الذاكر بلسانه، ولذلك لا ينبغي أن يغتر به، فهو من مكائد إبليس قاطع الطريق لعنه الله.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع