تعتبر العبادة تعبيراً عن مقام الإنسان عند ربه، وهي الميزان الأوحد الذي يظهر حقيقة ودرجة عبودية العبد وعلاقته بالله سبحانه. فإذا كانت العبادة تؤدى بالكسل والفتور، فهذا يعني عدم استحكام الإيمان في القلب، بل تعبّر عن عدم الإيمان، كما جاء في وصف الكفار والمنافقين في الذكر الحكيم: ﴿إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُون﴾ (التوبة/45).
وربما تكون عبادة المبادلة والمعاوضة، وذلك من عند من لا يرى الله إلاّ واسطة لنيل ملذاته، فهو يعبده لأنّه عزّ وجلّ سيعطيه بدل الدنيا جنّة وقصوراً، وبعد يعبده خوفاً من ناره لأنّه لا يشهد في خالقه إلاّ السطوة والعذاب الأليم، وهو يخاف ألم النفس وشقائها لأجل فيفتديها بالألم العاجل، وإلى هاتين الطبقتين أشير في حديث أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام: "إلهي ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك ولكني وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك".
فالعبادة الصادقة هي التي تنطلق من حقيقة مقام الإنسان عند ربه. فهو العبد والله المعبود؛ الإله الذي يستحق العبادة لأنّه جامع كلّ صفات الجمال والجلال على نحو الإطلاق.
ورغم أنّ البعض ممن احتجبوا عن نور الفطرة الإلهية ادعوا عدم إمكانية تحقّق مثل هذه العبادة، فإنّها عند أهل الله وأوليائه العبادة الوحيدة الحقة، وهي عبادة المحبين الذين لا يرون أنساً إلاّ بالخلوة مع محبوبهم، ولا حياةً إلاّ بالخضوع له والتضرع إليه. فإذا طلبوا الجنة، فذلك لأنّه يحبها، ولولا ذلك لما طلبوها أو أحبوها. وإذا بكوا خوفاً من النار، فذلك لأنّها مكان البعد والطرد من جوار معشوقهم، ولولا ذلك لما خافوا منها أو أبغضوها. كيف لا، والحب الإلهي آخذ بمجامع قلوبهم قد أنساهم كل ذكر، وأعتقهم من كلّ كدر.
ولأجل بيان هذا الأدب المعنوي في الصلاة، بل في سائر العبادات، نرجع إلى كتاب الإمام الخميني قدس سره في الآداب المعنوية للصلاة حيث يقول:
"ومن الآداب القلبية للصلاة وسائر العبادات، وله نتائج حسنة، بل هو موجب لفتح بعض الأبواب، وكشف بعض أسرار العبادات أن يجتهد السالك في أن تكون عبادته عن نشاط وبهجة في قلبه، وفرح وانبساط في خاطره".
إنّ هذا الأدب الذي يكون سبباً في كشف بعض أسرار العبادات إذا أهمل قد يؤدّي إلى نتائج عكسية تكون في النهاية عبارة عن الخروج من مقام العبودية – والعياذ بالله – لذلك لا يجوز التراخي في مثل هذا الأدب المهم.
وينبغي أن يعرف كلّ واحدٍ منّا أنّ طبيعة النفوس التي تربّت في أحضان الدنيا واستأنست منذ الطفولة بملذاتها وأحاسيسها لن تكون في البداية مقبلة على العبادة، لأنّ الإنسان يتعلّق بما يؤمن له اللذة والسعادة وينفر من كلّ نقص وتعب.
وحيث أنّ أكثر الناس يرتبطون بالعبادة في أول الأمر على أنّها تكليف ينبغي أن يقوموا به على أيّ حال، فإنّ هذا الأمر يكون سبباً في حرمانهم من لذة الأداء والعبادة، مما يرسم في النفس والخاطر صورة منفردة لها هي عبارة عن التعب أو السهر أو البرد وما شاكل، ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل يزداد سوءاً على أثر الاستمرار بها على هذه الطريقة، وتكون النتيجة، أنّ العبادة التي هي رأسمال كلّ سعادة وطريق كلّ كمال تصبح عاملاً في كدورة القلب وظلمانيته ونفوره من مجاورة الله وقربه.
لذلك يقول الإمام:
"وليحترز السالك احترازاً شديداً أن يأتي بالعبادة مع الكسل وإدبار النفس، فلا ينبغي أن يكون لها تعب وفتور، لأنّه إذا حمل النفس على العبادة في حين الكسل والتعب، يمكن أن تترتب عليه الآثار السيئة".
وحيث أنّ المطلوب من العبادة هو "صيرورة" باطن النفس بصورة "العبودية". وهذه العبودية، كما ذكرنا، لا يمكن أن تتحقّق إلاّ بالمحبة والرغبة إلى المحبوب، فإنّ إتيان العبادة مع الإدبار والكسل يؤدّي إلى النتائج العكسية، فبدلاً من العبودية يكون البعد، وبدلاً من المحبة يكون البغض، وليس هذا إلاّ الهجران التام والخروج من صراط الله المستقيم.
ولمعرفة حقيقة هذا الأمر ينبغي الالتفات إلى أحد أسرار العبادة، وهو نفوذ إرادة النفس في عالم البدن.
فالقلب هو أمير البدن كما ورد عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، وما لم يصلح القلب، فإنّ جميع أعضاء الإنسان وجوارحه لن تكون سالكة في طريق الصلاح، ولن تستنكف عن القيام بأيّ معصية أو تمرد. وتكون النتيجة تغلب سلطان الوهم والشهوة على مملكة الإنسان وسوقه باتجاه الرذيلة والتسافل، فالعلاج بإصلاح القلب، وهنا يأتي دور العبادة.
يقول الإمام:
"إنّ من أسرار العبادات والرياضات ونتائجهما أن تكون إرادة النفس نافذة في ملك البدن، وتكون دولة النفس منقهرة ومضمحلة في كبريائها، وتتملك الإرادة القوى المنبثة والجنود المنتشرة في ملك البدن وتمنعها من العصيان والتمرد والأنانية والاستقلال، وتكون القوى مسلمة لملكوت القلب وباطنه، بل تصير القوى بالتدريج فانية في الملكوت".
ويعلم من كلام الإمام أحد معاني الآية الشريفة:
﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾
لأنّ هذه العبادة الشريفة إذا أديت بحقّها تؤمّن سلطة القلب وسيطرته على مملكة البدن، وتجعل الأعضاء عاملة مؤتمرة بأمر القلب. وعندها لن ترتكب هذه الأعضاء أي فحشاء أو منكر.
ولكن هذه السيطرة مع وجود لذات أخرى في القلب هل يمكن أن تتحقّق؟وبعبارة أخرى، إذا لم يكن هذا القلب قد ذاق حلاوة العبادة والأنس بالمعبود، هل يتمكن من ترك حب الدنيا وملذاتها؟
بل إذا لم يكن لهذا القلب من العبادة نصيب إلاّ الألم والتعب والمشقّة، كيف يمكنه أن يخرج من سلطان الوهم والشهوة.
لذلك يقوم الإمام:
"وما ذكرنا لا يتحقّق إلاّ بأن تكون العبادة عن نشاط وبهجة ويحترز فيها من التكلف والتعسف والكسل احترازاً تاماً كي تحصل للعابد حالة المحبة والعشق لذكر الحقّ ولمقام العبودية ويحصل له الأنس والتمكن".
"وإنّ الأنس بالحق وبذكره من أعظم المهمات ولأهل المعرفة به عناية شديدة وفيه (الأنس) يتنافس المتنافسون من أصحاب السير والسلوك، وكما أنّ الأطباء يعتقدون بأنّ الطعام إذا أكل بالسرور والبهجة يكون أسرع في الهضم، كذلك يقتضي الطب الروحان أنّ الإنسان إذا تغذّى بالأغذية الروحانية بالبهجة والاشتياق محترزاً من الكسل والتكلف، يكون ظهور آثارها في القلب وتصفية باطنه بها أسرع".
ولكن، ما هو السبيل للوصول إلى البهجة والاشتياق؟ وكيف يمكن للسالك أن يحصل على اللذة في العبادة؟
يقول الإمام أنّنا إذا راجعنا مجموعة من الأحاديث والروايات في هذا المجال نتعرف على أدب آخر يكون بمنزلة المقدمة لهذا الأدب (البهجة).
فعن أبي عبد الله عليه السلام قال: "لا تكرهوا إلى أنفسكم العبادة".
وعنه أيضاً: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: "يا علي إنّ هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ولا تبغّض إلى نفسك عبادة ربك".
وفي الحديث عن العسكري عليه السلام: "إذا نشطت القلوب فأودعوها وإذا نفرت فودّعوها".
فملاحظة هذه الروايات يتبيّن ضرورة أدب الرعاية.
"وكيفية أن يراعي السالك في أي مرتبة هو فيها سواء في الرياضيات والمجاهدات العلمية أو النفسانية أو العلمية حاله، ويتعامل مع نفسه بالرفق والمداراة ولا يحمّلها أزيد من طاقته".
لقد شاهدنا الكثيرين ممن حمّلوا أنفسهم أزيد من طاقتها وأجبروها على العبادات الكثيرة طمعاً في وصال سريع أو كرامة عالية، ولكنّهم ما لبثوا أن فتروا وكسلوا، بل كرهوا العبادة من أصلها أو أصيبوا بأمراض نفسانية يصعب اقتلاعها.
وهذه الشريعة الإلهية تتضمن في جميع أبعادها هذا الأدب وتسير بالإنسان السالك مسار الرفق حتّى يصل إلى أعلى المراتب.
بل إنّ من علامات التكامل في السير المعنوي أن لا يشعر السالك بأيّ ثقل في الأعمال التي يقوم بها، وإنّما يشعر بشكل دائم بالخفة والبهجة والتقصير والرغبة في الاستمرار، كما أنّ من علامات الحقيقة الوضوح واليسر.
فهذا الدين دين الفطرة الإنسانية، هو دين ملائم لأصل خلقه الإنسان:
﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُون﴾َ
ولذلك إذا شعر أحدنا بضيق في نفسه من جراء العبادة فليتهم برنامجه وطريقة أدائه، وليس الدين. وليعلم بأنّ هناك خللاً في منهجه السلوكي.
يقول الإمام:
"ورعاية هذا الأدب بالنسبة إلى الشباب وحديثي العهد تعتبر من المهمات (الأكيدة). فإنّ الشباب إذا لم يعاملوا أنفسهم بالرفق والمداراة، ولم يؤدوا الحظوظ الطبيعية إلى أنفسهم بمقدار حاجتها من الطرق المحلّلة يوشك أن يقعوا في خطر عظيم لا يتيسر لهم جبره".
فما هو هذا الخطر؟
"وهو أنّ النفس ربما تصير بسبب الضغوط عليها وكفها عن مشتهاها – أكثر من العادة – مطلقة العنان في شهواتها، ويخرج زمان الاختيار من يد صاحبها. واقتضاء الطبيعة إذا تراكم، ونار الشهوة الحارة إذا وقعت تحت ضغط الرياضة خارج الحد تشتعل لا محالة وتحرق جميع المملكة".
"فعلى السالك أن يتملك نفسه في أيام سلوكه كطبيب حاذق، ويعاملها على حسب اقتضاء الأحوال وأيام السلوك، ولا يمنع نفسه الطبيعة في أيام اشتعال الشهوة وغرور الشباب من حظوظها بالكلية. وعليه أن يخمد نار الشهوة بالطرق المشروعة، فإن في إطفاء الشهوة بطريق الأمر الإلهي إعانة كاملة على سلوك طريق الحق.. فلينكح وليتزوج، فإنّه من السنن الكبيرة الإلهية، وبالإضافة إلى أنّه مبدأ البقاء للنوع الإنساني، فإنّ له دوراً واسعاً في سلوك طريق الآخرة. ولهذا قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: "من تزوج فقد أحرز نصف دينه".
وعن علي عليه السلام قال: إن جماعة من الصحابة كانوا حرموا على أنفسهم النساء والإفطار بالنهار والنوم بالليل... فأخبرت أم سلمة رسول الله فخرج إلى أصحابه فقال:
أترغبون عن النساء؟ إنّي آتي النساء، وآكل بالنهار وأنام بالليل، فمن رغب عن سنتي فليس مني... وأنزل الله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ﴾.
إنّ مجرد النظر إلى طبيعة تركيبة النفس الإنسانية وحاجاتها يهدي الإنسان إلى هذا الأمر، وبتعبير آخر، من خلال التأمل في الإرادة التكوينية لله عزّ وجل تُعرف بعض أسرار الإرادة التشريعة التي تجلت في الشريعة السمحاء.
فالله سبحانه لم يخلق الإنسان ويودع فيه كلّ هذه الميول عبثاً. بل إنّ قوة هذه الحاجات ومقتضاها يؤكد أنّ على الإنسان أن يلبيها على قاعدة الالتزام بالتكوين الإلهي لأجل الوصول إلى التكامل الحقيقي.
أمّا الدعوة إلى ترك الدنيا فهي متوجهة إلى العلاقة القلبية أولاً، وإلى الحد من جماح الشهوة وسيطرتها.ولا يوجد أي تشريع يأمر الإنسان بالقضاء على الشهوة في الحياة الدنيا قضاءً تاماً.
"وبالجملة، فالميزان في باب المراعاة أن يكون الإنسان ملتفتاً إلى أحوال النفس، ويسلك معها بنسبة قوتها وضعفها، فإذا كانت النفس قوية في العبادات والرياضات وتقدر على المقاومة، فليجدّ ويسعى في العبادة".
"والميزان الكلّي هو نشاط النفس وقوتها أو نفور النفس وضعفها.."