مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

لماذا نقع في فخّهم؟

السيد بلال وهبي

لا ريب أنّ الإنسان مفطور على طلب الغيب ومعرفته، ومفطور أيضاً على الارتباط به، سواء أكان غيباً مطلقاً، أم كان غيباً نسبياً. تارةً يراود فكره السؤال عن الله، فيريد أن يعرف حقيقته وصفاته وأفعاله، وهو يعلم بالوجدان أنّ الكمال كله لله الخالق المبدع، القدير، العالم المحيط، والله غيب مطلق، وتارةً يتطلّع إلى معرفة ما سيقع من أحداث، في المستقبل، وما سيجري فيه عليه أو على غيره. وهذا كلّه يدخل تحت باب طلب النفع والخير والفلاح والنجاح. وهذا أمر فُطر الإنسان عليه كذلك.

*ضعف الإيمان يضاعف المشكلة
كما أنّ هذا الإنسان، ومن باب دفع المفاسد عنه، والهموم والأحزان، تراه يطلب معرفة ما يخبّئه له الغيب، أيضاً، فيتوسّل إلى ذلك شتّى الوسائل التي يتوقّع أن تطلعه على ما يأتي به المستقبل، وهو أمرٌ لا يسلَم منه بشر إلّا مَن استخلصهم الله تعالى لنفسه ففوّضوا أمورهم إليه وتوكّلوا عليه، لا يراودهم شكّ أبداً في أنّ ما كتب الله هو خيرٌ لهم، وهؤلاء هم الذين يُمضون حياتهم آمنين مطمئنّين.

أما غير هؤلاء من البشر، ممّن أصاب الوهَنُ دينهم، وابتلوا بضعف الإيمان فإنهم يلجأون إلى وسائل لا تُسمن ولا تغني من جوع، ولا تسدّ نَهم الإنسان وتطلُّعه إلى معرفة الغيب، وربما أضافت إلى مشكلته مشكلة، ونقلته من عقدة نفسيّة إلى أخرى.

*معرفة الغيب بإذنٍ من الله
ونحن، وإن كنّا لا ننكر إمكانية الاطلاع على بعض أمور الغيب، بإذن من الله تعالى، كما نطق القرآن الكريم، والنصوص الشريفة الصحيحة، إلّا أنّ ذلك محصور فقط بمن ينتجبهم الله لأداء رسالته. وهذا الأمر محصور برسل الله وأنبيائه وأوليائه المعصومين سلام الله عليهم أجمعين.

كما أنّنا لا ننكر حصول الإلهام لبعض المخلصين لله تعالى الذين يتحمّلون مسؤوليّة الجماعة أو الأمة. ولكن هذا الأمر يدخل تحت عنوان التسديد والتأييد والمدد الغيبي للقائد أو الفقيه أو غيرهما ممّن يجاهدون في سبيله تعالى ويدافعون عن دينه.

أما غير ذلك، فلا سبيل لأحد إلى معرفة الغيب وقراءة المستقبل، أياً كان المدّعي. وكلّ ذلك مجرد تخرّصات لا تستند إلى دليل، ولا ترتكز على برهان. كما أنّ التجربة شاهدة على كذب من يدّعي ذلك، وعلى أنّ ما يذكره هؤلاء المنجّمون والمشعوذون لا يتعدّى التحليل المنطقي أو السياسي للأمور، وربط الوقائع بعضها ببعض، ما يسمح لأيّ محلّل أن يخرج بتوقعات ربما تصدق. وهذا أمر معروف للقارئ الكريم. فلنفرض أن واحداً جاء شاكياً حالته النفسيّة مع شريكه في الحياة الزوجية أو شريكه في العمل عندها يكون الإنسان قادراً من خلال طرحه لمجموعة من الأسئلة عليه أن يُحدّد مسار الأمور التي يمكن أن تجري على الشريكين، وأن يتوقّع لهما الاتفاق أو الفشل، وهو لا يكون والحال هذه مطّلعاً على الغيب البتّة، جلّ ما في الأمر أنه ربطَ الأسباب بعضها ببعض ربطاً منطقياً جعله يتوقع ما سيحصل. فهذا شيء والتنبؤ شيء آخر.

*أسباب تصديق الأكاذيب
ولنا أن نسأل: ما هي الأسباب التي تدفع ببعض الأشخاص إلى الاستسلام لأكاذيب المشعوذين وأساطير المنجّمين الذين يدّعون المعرفة بالغيب والقدرة على قراءة المستقبل، والذين ينشطون في هذه الأيام يساعدهم على ذلك قنوات فضائيّة سخّرت لهم مستفيدة من إقبال المشاهدين الكثيف، والذين يستسلمون لتلكم الأكاذيب من غير وعي أو تدبّر؟

في تصوّري أنّ هناك مجموعة من الأسباب أختصرها بما يلي:
الأول: الفراغ الفكري
ونعني به افتقار الإنسان إلى قراءة حقيقيّة لهذا الوجود ومعرفة يقينيّة بكيفيّة جريان الأحداث فيه والنسق الذي تجري عليه، ومن هو السبب الفاعل والمؤثر فيه. فمن لم يتمكّن من تحديد ذلك بدقّة متناهية ويقين فكري ثابت سيستسلم بلا شك لتخرّصات المتخرّصين وأساطير المتنبّئين. أمّا لو آمن الإنسان أنّ الله وحده هو مالك هذا الوجود بأسره يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعزّ من يشاء ويذلّ من يشاء، وأنّه تعالى يمحو ما يشاء ويثبت وعنده أمّ الكتاب، وأن ما يريده الله كائن وما لا يريده لا يكون، لأدرك من فوره أنّ الأمور بيد الله لا بيد غيره.

ولهذا، نجد الروايات الشريفة تركّز على ضرورة معرفة هذا الوجود معرفة يقينيّة، ومعرفة الله تعالى، وحقيقة صفاته، وكيفيّة جريان أفعاله. فأول الدين معرفته، فإذا عرف الإنسان كل ذلك منحته تلك المعرفة طمأنينة فكريّة وسكينة نفسيّة فلا يعيش قلقاً فكرياً ولا اضطراباً نفسياً يضطرّه إلى اللجوء إلى المكذبين والمخادعين.

إنّ إنساناً يعيش فراغاً فكرياً لا يعرف من المؤثر في هذا الوجود ولا من يدبّره ويتحكّم في الصغير منه أو الكبير، سينسب كل الأحداث إلى حركة نجم هنا، أو بزوغ كوكب هناك، وستكون الكواكب والأبراج هي التي تحرّك حياته وتمضي بها إلى حيث تريد، فإذا التقى كوكب بكوكب آخر، شقي، وإذا كان في برج معين، رُزِق، وفي برج آخر، مُنِع عنه الرزق. فأيّ ضلال بعد هذا!

الثاني: الفراغ الإيماني
والمقصود به عدم انسجام القلب مع الفكر، فلربما كان الإنسان معتقداً بالعقل والفكر أنّ مدبر هذا الوجود هو الله تعالى وحده لا يشركه في ذلك شيء، ولكن إيمانه هذا إيمان عقليّ صرف لم يتحوّل إلى اعتقاد قلبي ثابت، يدفعه للعمل وفق هذا الاعتقاد. فهو من هذه الجهة يعيش القلق على المصير خائفاً على مستقبله ورزقه، يعلم عقله أن الله هو الرزاق لكنّ قلبه ينشدُّ إلى غير الله، ويعلم عقله أن الله هو المؤثر لكن قلبه يخشى حركة تتأتّى من إنسان هنا أو هناك.

إن الإيمان القلبي أسمى من الإيمان الفكري والعقلي بدرجات، فهو يدفع الإنسان إلى العمل والطاعة، كما يدفعه إلى التسليم والرضى واليقين، فتجري عليه الأقدار من غير أن تفتّ من عضده، أو تنال من عزيمته، أو تؤثر على علاقته بربّه وبالخلق.

إنّ وعي القلب لله وامتلاءه بحبّه تعالى يهوّن على الإنسان ما عظُم من الأمور، فضلاً عمّا صغُر منها؛ لأنه يتلقاها في الله تعالى عالماً أنها تصبّ في مصلحته وتهدف إلى خيره في دنياه وآخرته ولسان حاله يردد : ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (التوبة: 51). وورد في الخبر عن الإمام زين العابدين عليه السلام أنّه قال: "من اتكل على حسن الاختيار من الله لم يتمنَّ أنّه في غير الحال التي اختارها الله له(1)".

وفي المقابل فإنّ فراغ القلب من الله تعالى يجعل الإنسان منشدّاً إلى الأوهام والضلالات والخرافات والأساطير لأنّ القلب، أيّ قلب، محال أن يكون فارغاً فإن لم يملأه الله تعالى ملأه غيره.

الثالث: الاضطراب في الحياة العامة
إن اضطراب الحياة العامة وكثرة تعقيداتها، وافتقاد الإنسان للأمن النفسي والأمان الاقتصادي، وكثرة الحروب، وتعدّد الصراعات السياسيّة، وحدوث الفتن والأزمات الاجتماعية، كلّ ذلك يأخذ بضعاف النفوس المنقطعين عن الله تعالى إلى المتنبّئين والمنجّمين ليجدوا عندهم شيئاً من سكينة وقليلاً من طمأنينة. وهؤلاء المنجّمون حاذقون في أساليبهم. والقنوات الفضائية اليوم رائعة من حيث الإخراج في تقديم الكذب والدجل كأنه حقيقة ماثلة للعيان، خاصةً من لديه القابلية لتصديق أي شيء، ويعلق الآمال على أي شيء حتى ولو كان كاذباً.

الرابع: اضطراب حياة الإنسان
إنّ اضطراب حياة الإنسان وعجزه عن تحديد غاياته، أو تحقيق أهدافه، كذلك فشله في بناء علاقات متينة مع محيطه، أو شريكه الزوجي أو عائلته وأرحامه، كل ذلك يجعله مهووساً بالخوف من المستقبل، ومدفوعاً في الوقت ذاته، لا إرادياً، إلى المنجّمين والمتنبّئين معتقداً أنّه بذلك يمكنه أن يعوّض ما خسر، وأن يتلافى ما يمكن أن يقع، فيعلّق الآمال على هؤلاء اعتقاداً منه أنّهم يملكون مفاتيح المستقبل الواعد فيستسلم لهم بإرادته ويصيرون هم أسياده، يحرّكونه كيفما شاؤوا، ويؤثّرون فيه كيفما أرادوا، يسلبون هذا المسكين البائس قدُراته ويقتلون كلّ طاقاته التي لو استفاد منها وفَعَّلها لتغيّرت حياته وتبدّلت أحواله إلى الأفضل والأحسن.

وما أكثر الذين يقعون في هذا الفخّ، فخ المنجمين من موقع الاضطراب في الحياة الشخصية والاجتماعية. ولعلّ متابعة لحلقة واحدة من هذا النوع من البرامج تبيّن لنا خطورة هذا الأمر، وشيوعه حتى وصل إلى فئة المؤمنين المتديّنين، الذين ربما لا يتواصلون مع تلك البرامج لكنّهم يشاهدونها بلا شك. كما أنّ بعضنا ربما يلجأ إلى ما يسمّى بقراءة الفنجان وغيره، ولعلّ البعض يعتقد بحتميّة ما يسمعه من قارئة فنجانه.


1- ميزان الحكمة، الريشهري، ج2، ص1092.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع