الشيخ د. محمد أحمد حجازي
لمّا كان الإنسان يعيش بين حالتين من حركة الزمن، بين توديع الماضي واستقبال المستقبل المجهول، فإنه يتوق إلى معرفة ما هو مخبّأ له، وذلك لما يمرُّ عليه من تجاربه الماضية.
*زادَهم الجنّ رهَقاً
وقد يشكّل الاطلاع، أحياناً، على الحوادث المجهولة جزءاً كبيراً من شخصيّة الإنسان، وذلك حينما تصبح الحياة مليئة بالأعباء والضغوطات اليومية. فلأجل أن يعيش واقعاً، ولو على مستوى أحلام اليقظة، يحاول أن يبحث عن التقادير الغيبيّة المقدّرة له، ولو كان عن طريق ظنّي وغير صحيح. ونلاحظ بوضوح هذا المعنى في سورة الجن، حينما يتحدّث القرآن عن الرجال الذين يستفيدون من نفرٍ من الجن لمعرفة ما يخبّأ لهم من وقائع مجهولة، قال تعالى: ﴿كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا﴾ (الجن: 6).
وعلى ضوء ذلك، فإنّ أكثر العلاقات المضطربة عند الإنسان هي علاقته بمستقبله وأيامه الآتية التي تُلخّص بكلمة واحدة وهي: "الغيب"، وهو نقيض الشيء الحاضر والمعلوم عند الإنسان.
*لا يعلم الغيب إلّا الله
والسؤال الذي يطرح نفسه، ما هو الغيب؟ وهل يستطيع الإنسان أن يطّلع عليه بطرق دينيّة أو تنجيميّة؟
وفقاً لنظرية القرآن في مفهوم الغيب، فقد تحدّث المولى تعالى عن الغيب في العديد من الآيات، ليعرّف الإنسان أن المولى تبارك وتعالى من صفاته: العالمية، والقدرة على معرفة كل صغيرة وكبيرة، ما خفي منها وما ظهر.
قال تعالى: ﴿قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ﴾ (النمل: 65).
وقال تعالى: ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ﴾ (الأنعام: 59).
والمعنى الواضح هو أنَّ العلوم الغيبيّة هي من مختصّات الله سبحانه لا يشاركه فيها غيره، ولا تتجاوز إلى سواه.
*إلّا مَن ارتضى من رسول
ولو عدنا إلى آيات أخرى تحدّثنا عن الغيب كقوله تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ﴾ (الجن: 26 - 27)، نلاحظ أنَّ الله تعالى في هذه الآية استثنى من له الأهليّة بالاطلاع على الغيب وذلك بقوله عزّ وجلّ: ﴿إِلاَّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾. وهذا يعني أن هناك علمين: علم غيبي لا يُطَّلَع عليه وهو مختصّ بالله تعالى، وعلم غيبي آخر يمكن الاطّلاع عليه بتعلّم الغيب والعلم بالغيب.
ويدلّ عليه ما ورد في الروايات عن الأئمة عليهم السلام، نذكر منها؛ حينما كان الإمام علي عليه السلام يخبر عن الملاحم بالبصرة، وما يجرى فيها في المستقبل، فقال له بعض أصحابه: لقد أُعطيتَ يا أمير المؤمنين علم الغيب؟!! فضحك عليه السلام وقال للرجل: "ليس هو بعلم غيبٍ، وإنما هو تعلُّم من ذي علم، وإنّما علم الغيب عِلم الساعة، وما عدَّده الله سبحانه بقوله: ﴿إِنَّ اللهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾" (لقمان: 34).
*المنجّم مُخبرٌ بالغيب!!
وبسبب تداخل المفاهيم الغيبيّة التي يتناولها الناس والخلط بينها وبين ما يحاولون الكشف عنه عن طريق الشعوذة والتنجيم، يلاحظ أحياناً أنهم لا يفرّقون بينهما، وبالتالي يؤدّي ذلك إلى الاعتقاد أن المنجّم يعلم الغيب أو كأنه يقوم مقام المُخبِر عن الغيب.
وكلمة التنجيم مصدرٌ من الفعل (نَجّمَ)، وهي كلمة مأخوذة من النَجم وهو الكوكب أو الثريّا، وهي عبارة عن طريقة من الطرق التي يستدلّ من خلالها بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضيّة، والتنجيم نوع من السِّحر والكهانة، ولذلك عُرِّف الشخص الذي يعمل بهذه الطريقة بالمُنجِّم.
*قول الظنّ ليس الحقّ
وبناءً عليه، يتّضح الفارق بين علم الغيب وعلم التنجيم، فعلم الغيب هو علمٌ قطعي ومصدره الله تعالى، وأما علم التنجيم فهو علمٌ ظنّي ومصدره الاجتهادات البشرية. ولذلك، فلو طابق قول المُنجِّم الواقع وصار أمراً حقيقياً، فهذا لا يغيّر من كون الطريق التي اعتمد عليها أنّها ظنيّة، وبالتالي يبقى هذا العلم بحسب رأي الدِّين طريقاً باطلاً، قال تعالى: ﴿وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾ (النجم: 28).
ولهذا اشتهر على ألسنة العلماء قولهم: "كذب المنجّمون ولو صدقوا" أي حتى لو صدقت تنبؤاتهم إلا أنها كاذبة لأنها لم تؤخذ عن الطريق اليقيني الغيبي الذي لا يحكي عنه إلّا من ارتضى من رسول، حسب التعبير القرآني.
ويضاف إلى ما ذُكر أمر آخر وهو أن الاستخبار عن المستقبل ومحاولة التعرّف إلى حوادثه أمر غير ثابت ومستقر، وذلك لأنَّ الأمور كافّة لا تجري إلّا بأمر الله تعالى، وهي عُرضة للتغيّر والتبدّل، فكثيراً ما يُبنى على مثل هذه الحسابات الظنيّة، ثم بعد ذلك يظهر الواقع على خلاف ما هو منتظر.
وهذا يذكّرنا بحديث للإمام علي عليه السلام حول هذا المعنى. يقول عليه السلام: "عرفت الله سبحانه بفسخ العزائم وحلّ العقود ونقض الهمم"(1).
*المستقبل غير مقطوع الوقوع
مضافاً إلى ما ذكرنا، كم من الأشياء التي يجري فيها البداء، وهي قابلة للتغيّر والتبدّل؟ وعليه، لماذا يسعى الإنسان لمعرفة المجهول من الحوادث المستقبلية طالما أنها غير مقطوعة الوقوع؟
من هذا المنطلق، فإنه من غير الصحيح أن يترك التوجيه الديني المُلزم باتباع الطرق اليقينية ويتبع الطرق الظنيّة التي يعتمدها أهل التنجيم، بل من المستغرب جداً كيف أنّه وعلى عتبة كل عام جديد يحتشد "أنبياء التلفزيونات" ليُطلقوا نبوءاتهم الظنيّة على ملأ من الناس ليصطادوا بها عقولهم ويسلبوا وعيهم ورشدهم، ويأخذ الضعفاء من البشر كلامهم أخْذ المسلَّمات دون نقدها ومناقشتها.
لقد جاءت الرسالات السماوية لتنظّف العقول البشرية من ثقافة الخرافات والظنون وتملأها بثقافة الحقائق واليقينيّات، ولتبعدها عن الطرق الملتوية في الاستعلام عن الأشياء الخفيّة.
وعليه، فإنّ كل من ينحرف عن المنهج الشرعي والعقلائي لن يحصد إلّا الخيبات وسوء الظن بالأقدار الغيبية.
1- ميزان الحكمة، محمد الريشهري، ج1، ص795.